"طقس بيروت" لعايدة صبرا: استجلاب السعادة والتعوّد

منى مرعي
السبت   2018/12/08
النص الذي بنته عايدة محبوك على جملة من الإستطرادات
في "طقس بيروت" لعايدة صبرا، هنالك ما يذكر بنص إدوارد آلبي "قصة حديقة الحيوان" (Zoo Story). رجلان غريبان يجلسان على مقعد خشبي في حديقة، يتناقلان أحاديث جانبية وحميمية في آن فيها من العبثية ما يؤدي، في نهاية العرض الى الموت نتيجة انتحار أو الى قتلٍ مفتعل من المقتول نفسه: بيتر يخرج سكيناً ويرميها. ما أن يلتقطها جيري حتى يرمي بيتر نفسه على السكين منتحراً. 

لسعيد وحازم، شخصيتا الحديقة البيروتية، طقسٌ عبثي آخر. هو مطعّم بشكلٍ أو بآخر بحيثيات  تختلف عن حيثيات آلبي الذي كتب مسرحيته تلك العام 1958 وان تقاطع الشبه قليلاً في أكثر من مكان في العرض. استوحت عايدة نص عرضها من إحدى مشاهد نص الكاتب الفرنسي لويس كالافريت. أبرز ما تظهره هاتان الشخصيتان اللتان شكلتهما المخرجة والكاتبة بعناية، هو انعدام قدرة الفرد في بناء علاقة مع كل ما يحيطه، حتى مع نفسه. سعيد، يؤدي دوره رودريغ سليمان، يملك هامستر وحازم، يؤدي دوره ايلي نجيم، لديه عصفور يسميه زيزو. حازم الذي يصرخ في إحدى لحظات العرض "ما عم لاقي حالي بين الناس... ما عم لاقي حالي بالمدينة" يردد  في أكثر من مكان على ضرورة الفرح: "لازم نكون مبسوطين"... يشدد على ضرورة التعامل. يُعدّ مشهد التعامل أو التأقلم هذا من أجمل مشاهد هذا العرض. "التعامل مع سجادة، مع ورق تواليت، مع لمبات الشارع حتى لو الكهربا مقطوعة، تتعامل  مع خزانة بلا قفل، مع غبرة، مع أي شي، مع الطقس... التعامل مع أي شيء... أحلى شي لليوم الطقس..".

تبدو شخصية سعيد في أقسى اضطرابها النفسي: يصفن في الأفق بنظرة ثاقبة تحيل الى غضبٍ شديد قلّما يظهره بالكلام، يكرّر كلماته مراراً، يتأتئ، ينقلب مزاجه فجأة، يصاب بحالة جنون عندما يُأتى على ذكر زوجته. على عكس سعيد، يتظاهر حازم المنفتح دوماً على ارتكاب أحاديث حول جمال الطقس أن كلّ شيء على ما يرام... سرعان ما ستنكشف لعبة المرايا تلك التي تبني صورتان نقيضتان لحالة واحدة: تكمن مأساة هاتين الشخصيتين في غربتهما وعزلتهما عن المدينة، عن فكرة الحب، عن كل الأفكار التي تشكل وجوداً متوازناً لأي فرد.

النص الذي بنته عايدة محبوك على جملة من الإستطرادات... أحاديث تجرّ أحاديثَ أخرى. أحاديث السرفيس التي لا ربط مباشر فيها مع اللوتو ثم الحر... والإنفعالات الغير مبرّرة لسعيد. لا يفرق العبث الذي تنقله عايدة كثيراً عن عبث مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: ما زال العجز هو ذاته وان تبدلت الأدوات والأحاديث. قد يكون ما تبدّل هو رغبة التعوّد وفعل "استجلاب السعادة" وافتعال تلك الأخيرة والتعامل معها كفعل استهلاكٍ يومي. هذا الإستجلاب ليس تفصيلاً في يومياتنا: هو يأتي على شكل مقاومة أحياناً وعلى شكل انكسار أحياناً أخرى.  يكفي النظر الى المشهد الأخير وانتقال سعيد الى حالة سوريالة من الفرح بالطقس. حديثٌ تفضي نهايته الى قتلٍ يأتي على شكل استعارة. اللحظة الأخيرة تدفع للتساؤل ان كان حازم موجود فعلاً وإن كان مكان الحدث الحقيقي هو الحديقة.. تقلب اللحظة الأخيرة كل ما تنامى الينا كمشاهدين عن حقيقة هاتين الشخصيتين.

ليس سهلاً تركيب عرضٍ مماثل: تكثر في ذاكرة المسرح المحلي والعالمي، العروض التي تتناول ثنائياً في فضاء مبهم – مقعد خشبي تحديداً-  يتناول عبثية الوجود. في هذا السياق، يكمن التحدي الأبرز في تلافي تكرار المواقف وإضافة نكهة مغايرة لعبث اللحظة الآنية دون افتعالها أو إسقاطها. وهنا ما يُحسب لعايدة صبرا أنها أَضافت نكهةً تشبهها في نصٍ يجلب للعبث روحاً مغايرة تنطلق من القطيعة مع المكان وذاكرته: عندما يحسد حازم سعيد لأنه عرف كيف كانت بيروت في ما مضى يجيب هذا الأخير أن المدينة التي تعيش على النوستالجيا ليست بمدينة.. يبحث سعيد عن الناس... هم الذين يصنعون المدينة و"ما في ناس... وينن.. وينن.. وينن". يرددها بوسواسه القهري هذا... ناحية أخرى أضافتها عايدة، الى جانب تمظهر بعض الجوانب المحلية كالحرب الأهلية وحكايا السرفيس، هو اللعب على  فكرة التعوّد في أكثر من سياق في العرض. نسجت عايدة صبرا هذه المقاطع المكثفة حول استجلاب السعادة والتعوّد بصور فيها من القبح والجمال ما يكفي. وبشكل عام، كان ايلي نجيم ورودريغ سليمان على مستوى عالٍ من الأداء: ايلي نجيم أبقى على عفويته التي عهدناها بينما انشغل رودريغ بتجسيد شخصية مركبة جداً لم نشهدها من قبل في أعماله السابقة. رغم ذلك، هنالك بعض المشاهد التي لم تذهب الى أقصى مداها أدائياً. كما كان الأمر يحتاج بعض التنبه لمواقع الصمت في العرض وتفسيره...

في هذا الطقس الممطر قد يكون مجدياً تعديل طقوسنا الداخلية والتوجه الى مسرح مونو... لأن عرض عايدة ورودريغ وايلي كفيل بجلب بعض التساؤلات المغايرة التي تتأتى نتيجة لحظاتِ عبثية بيروتية الطابع... وهذا ما لم تشهده بيروت على الخشبة منذ فترة!