شاكر الأنباري.. السترات الصفر والنازية الجديدة(*)

المدن - ثقافة
السبت   2018/12/08
الحفاظ على الهوية، عادة ما يذكرنا بهتلر، ومقولات النازية حول النقاء العرقي
(*) إن صح الخبر القائل إن واحداً من مطالب أصحاب السترات الصفر المقدمة للحكومة الفرنسية هي إعادة النظر باتفاقية الهجرة، والحد منها للحفاظ على الهوية الفرنسية، فهذه الحركة لا تعدو أن تكون ظاهرة جديدة لليمين الفرنسي المتطرف، والنازية الجديدة المتصاعدة في أوروبا. ولن ينخدع المراقب بالشعارات المطلبية للمتقاعدين والطبقات الفقيرة، المشروعة طبعاً، لهذه الحركة. 

فهذا الشعار: الحفاظ على الهوية، عادة ما يذكرنا بهتلر، ومقولات النازية حول النقاء العرقي والتفوق الألماني، وقد كلف البشرية ملايين الضحايا، ومليارات الأطنان من المعاناة، والبؤس، والحكايات. هنا تتحول مقولة النقاء العرقي إلى الحفاظ على الهوية الفرنسية لدى السترات الصفر، ويمكن قراءتها بـ: التفوق الفرنسي. علما أننا كنا شهوداً على تصاعد النفس العنصري في الواقع الأوروبي منذ ثلاثين سنة، تدرجت وبانت تجلياتها عبر أحزاب مطلبية، وحركات غير حكومية، وتجمعات عنفية، زوّقت بعض الأحيان أسباب معارضتها للسياسات الحكومة في هذا البلد الأوروبي، أو ذاك. لكن محور مطالبها الذي حاولت إخفاءه، بقوة بعض الأحيان، وبذكاء شيطاني، ويأتي سافراً أحياناً أخرى، هو الرفض والعداء للأجانب، وعدم الاعتراف بوجودهم، وتجليات ذلك الوجود، وبثقافتهم وخلفياتهم الحضارية. يشيحون بعيونهم عن ظاهرة لم يعد انكارها سهلاً، ألا وهي تغير المجتمعات الأوربية بشكل جذري، خلال العقود الأخيرة، وذلك بدخول الثقافات الأجنبية التي جلبها اللاجئون والمهاجرون، متمثلة بالتقاليد، والفولكلور، والطعام، والدين، وطريقة نطق اللغة، إلى حيثيات البنى الاجتماعية وتفاصيلها. دخولها بقوة، وهو أمر طبيعي وانساني، سرعان ما غيّر البنية التقليدية للمجتمعات الأوربية بشكل غير مألوف. هذه الحقيقة هي ما يحاول التيار العنصري المتعالي، الفوقي، التعامي عنها وتجاهلها. 

انعكس ذلك حتى لدى مفكرين، ودارسي اجتماع أوروبيين، ذهبوا بعيداً في نومهم اللذيذ الحالم بهوية فرنسية ناصعة، أو أوروبية موحدة. لماذا يطالب محتجو السترات الصفر بالحفاظ على الهوية؟ وهل هناك هوية فرنسية اليوم؟ وهل تشذ فرنسا عن خليقة الأرض بامتزاجها وهجراتها وبؤسها؟ أين هي الهوية في العراق، ولبنان، وسورية، وأميركا، والبرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، وغيرها الكثير الكثير من عجائن الألفية الثالثة؟ وكانت السياسات الغربية، والفكر المركزي الأوربي، والقوة المجردة من الأخلاق، مشاركة في إنهائها، ليعود أصحاب السترات الصفر اليوم طامحين، ثائرين، من أجل هوية فرنسية؟ ألا يعكس الأمر جهل هذا التيار بواقع المجتمع الفرنسي، والعالم برمته وما جرى فيه من تداعيات كارثية، بل وبمحاولة تجاهله؟

هناك ملايين الشرقيين ممن يدينون بدين آخر غير البروتستانتية والكاثوليكية، وهناك لغات أكدت وجودها في الشارع، كون مئات الآلاف ما زالوا يتكلمون بها. وهناك ملايين الزيجات المختلطة في المجتمع الفرنسي، والأوروبي كذلك، ومن ثم ما ذنب المهاجر الباحث عن الخلاص في أرض الحرية فرنسا التي لديها تاريخ طويل بقتل الشعوب، ونهب خيراتها، وتقويض هويتها، وما أفريقيا سوى مثال قريب على ذلك؟ ألم تأت حركة فكرية وفنية هائلة تسمى ما بعد الحداثة، للاعتراف بحقيقة التعددية الاجتماعية، والثقافية، والدينية، في المجتمع الفرنسي؟ وبداهة تشظي الثقافة المهيمنة، أي الهوية الفرنسية؟ هل يؤشر ذلك إلى بعد تلك الحركة، حركة السترات الصفر، عن واقع المجتمع الفرنسي في الألفية الثالثة؟

(*) مدوّنة كتبها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.