مؤخرة "أوباد" وأشياء أخرى

رشا الأطرش
الخميس   2018/12/20
الإعلان الذي استفز النسويات الباريسيات
بعد أخذ وردّ، أنزلت إدارة "غاليري لافاييت" أخيراً، تلك المؤخرة الأنثوية المبهرة، عن لوحة إعلانية ضخمة تصدرت – لأيام – واجهة المركز التجاري الباريسي الشهير. 

يصعب الجزم في ما إذا اتخذت إدارة "لافاييت" قرارها هذا، استجابةً للرسائل شديدة اللهجة مِن هيلين بيدار، نائبة عمدة باريس والمسؤولة عن العدالة الجندرية، والتي اعتَبرت الإعلان تمييزاً جنسياً ضد النساء. لكن المؤكد أن بيدار أحدثت جلبة معتبرة في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. بل كاد الأمر يتطور إلى اجراءات "مهنية"، بحكم منصب الناشطة النسوية الشيوعية، في المجلس البلدي لمدينة باريس المتمتع بصلاحيات مجلسَي البلدية والمحافظة، وبحكم توقيع إدارة "لافاييت"، قبل أشهر، على ميثاق "الإعلان المسؤول" حيث يتعهد الموقعون الالتزام بسياسة إعلانية خالية من التمييز الجندري والعرقي والديني. وقد أشارت الصحافة الفرنسية، في تغطيتها لموضوع الجدل، إلى أن إزالة الإعلان لماركة اللانجيري "أوباد"، جاءت نتيجة انتهاء مدة الحملة الإعلانية، لتُستبدل صورة المؤخرة المثالية، بإعلان لماركة مجوهرات، وفقاً لجدولة مسبقة.

وإذ لم تخلُ متابعة النقاش الفرنسي العام للموضوع، من متعة فكفكة أيقونات الثقافة اليومية والشعبية – وعلى رأسها الإعلانات، إضافة إلى الانخراط في تمرين عملي وتطبيقي على المعنى السياسي والاجتماعي للجندر، ومحددات التمييز والإساءة، ومرجعيات القرار والفعل في ذلك كله، فإن تلك المتعة بدت مشوبة بكثير من القلق الذي قارب أحياناً الغضب والنفور. القلق على مستقبل الحريات والتعبير الفني (فالإعلانات فن وإبداع أيضاً)، لا سيما في بلد مثل فرنسا. والنفور مما يمكن أن يؤول إليه الخطاب النسوي حين يتاح له التطرف، وأسوأ من ذلك: حين يمتلك سلطة.

فالمسوغات التي طرحتها بيدار خلال معركتها مع "لافاييت"، تمحورت حول "الإهانة" التي تضمّنها إعلان "أوباد" للنساء، باعتباره يختزلهن في جنسانية مضخّمة، ويقدمهن كـ"أغراض جنسية"، خصوصاً، كما قالت بيدار، في غياب وجه المرأة صاحبة المؤخرة، وبأثر من وقفتها "غير الطبيعية" التي تُعلي الشهوانية فوق ذاتها الفردية والإنسانية. وفي حين تباينت مواقف الجمهور، بين مؤيد لبيدار التي لم يفُتها التذكير بإنجازات حملة "مي تو"، وبين ناقد لخطابها "التطهّري" و"المتزمت"، فإن السجال استحضر محطات شبيهة سابقة، أبرزها الحملة الإعلانية لدار إيف سان لوران، والتي أشعلت نقاشاً حامياً في ربيع العام 2017. إذ أظهرت إعلانات سان لوران، عارضة أزياء برأسها مُسنَداً إلى كرسي واطئ ومؤخرتها مرفوعة إلى أعلى، بالكاد ترتدي الملابس، وحذاؤها ذو الكعب العالي مُزوّد بدواليب على غرار أحذية التزحلق. وصدّرت حملة سان لوران نفسها، عارضة أخرى، مضطجعة، بساقيها المتباعدتين في مواجهة الكاميرا وعاريتين إلا من جوارب "شبكة الصياد"، فيما النصف الأعلى من جسدها مغطى بالفرو، وفي قدميها الحذاء المدولب نفسه. وانطلق آنذاك هاشتاغ "إيف سان لوران إسحب إعلانك المهين" (#YSLRetireTaPubDegradante)، حيث التهب التغريد برفض "تشييء" المرأة جنسياً كاستراتيجية تسويقية، ورفع الصوت باللاتسامح مع تسليعها والحطّ من قيمتها البشرية لا سيما من طريق إظهارها بمظهر الخاضعة، الذليلة، الفاقدة للإرادة، وبمعايير جسمانية تحاكي الأنوركسيا (فقدان الشهية العصبي) كمُعطى جمالي.

لكن التغريد الأكثر إثارة للاهتمام، وقتها، ركّز على التذكير، وبحسرة، بأن سان لوران نفسه كان أول مَن خاطب الموجة النسوية الثانية، في الستينات من القرن العشرين، عندما أطلق خط موضة بعنوان "السموكينغ" (Le Smoking) وقوامه بذلات "سموكينغ" رسمية نسائية، على غرار البذلات الرجالية المعروفة. وفي الصور الإعلانية ارتدتها عارضة الأزياء وفي يدها سيجارة مشتعلة، كتحدٍّ حرفيّ مزدوج. صحيح أن كوكو شانيل كانت قد سبقته إلى تصميم البنطلونات النسائية (الواسعة)، في العشرينات من القرن نفسه، إلا أن البنطلون لم يكن قد تمّ تقبّله بالكامل قبل عرض الأزياء الشهير الذي قدّمه سان لوران في العام 1966. فحتى ذلك الوقت، مثلاً، كانت قلة من مطاعم النخبة تقبل بدخول نساء مرتديات البنطلون.

وفي 2017 أن "سلطة تنظيم الإعلانات" في فرنسا (ARPP) طلبت من سان لوران إزالة إعلاناته الـ"بورنو شيك". وأدّت الحادثة إلى انبثاق المزيد من اللجان والمواثيق، المهنية والأهلية والرسمية، والتي أنتجت معايير إضافية للإعلانات، وأكثر وضوحاً بخصوص الجندر تحديداً، وبشكل يتضمن درجات أكثر إلزاماً للمعلنين.. وصولاً إلى معركة بيدار-لافاييت الأخيرة.

والمدهش أن بيدار صرّحت مؤخراً بأنها لا تتوانى عن الدفاع عن حق حركة "فيمن" في الوجود. إذن، فهذه النسوية مستعدة لحماية العريّ في الحيز العام، طالما أنه "نضالي" وحق كشكل من أشكال التعبير، وطالما أنه مفرغ من جنسانيته (أو هكذا تظن). وفي المقابل، خطابها جاهز لصوغ مخيلة "موحدة" عن المرأة ولها، ومصادرة الحق في وجود مخيلات وجماليات أخرى.

هكذا، يبدو أن الخطاب النسوي في فرنسا يكتسب سلطة رقابية، وما يشبه صلاحيات المنع. وهكذا، يتحول بعض النسوية المعاصرة، بنسخته المتشددة، إلى منادٍ بالفن الطهراني و"النظيف". ولا تعود سابقة، أو مستغربة، تلك الدعوة قبل أشهر، إلى إزالة لوحة لبالثوس (1908-2001) من متحف "متروبوليتان" في نيويورك، ولا المطالبة بحظر حفلة مؤسسة "سينماتيك فرانسيز" تكريماً لمسيرة السينمائي رومان بولانسكي. بل باتت النسوية الجديدة، على نحو ما، مُنتجةً لثقافة النوع، التي، وللمفارقة، يستغل أصداءها صنّاعُ السلع نفسها في ترويج ماركاتهم، إذ بدأنا نرى إعلانات لماركات لانجيري، حيث تظهر العارضات بكامل ملابسهن.

هذا في الغرب، حيث لا خوف كبيراً من مدّ ديني أو محافظ، على الأقل ليس بالدرجة التي نواجهها يومياً كمشرقيين. وهذا في فرنسا، حيث قيم العلمانية، و"العدالة والإخاء والمساواة"، متجذرة في الحيز العام إلى الحد الذي يصعّب استفحال مخاطر من هذا القبيل، مهما صعد اليمينيون والمحافظون. بل إن الجدير بالذِّكر أن سياسيّةً من فصيلة مارين لوبن، بدت منطقية وعقلانية حين غرّدت ضد هيلين بيدار، قائلة: "أين هو التمييز الجنسي في عرض مؤخرة من أجل بيع ملابس داخلية؟".

فكيف، إذن، يمكننا أن نستشرف المستقبل التطوري للخطاب النسوي العربي اليوم، كامتداد طبيعي لموجاته حول العالم، بلا خشية جدية من تقاطعه مع الخطاب الذكوري/الديني/المحافظ، والمهيمن أصلاً بلا مِنّة من النسوية البروتستانتية؟

لا شك في أن حالة الغليان التي يشهدها التيار النسوي، في الغرب كما في أنحاء العالم، منذ عامين تقريباً، يستدعي مقاربات جديدة لدراسته وتفكيكه، وربما لمجابهته أيضاً بنسوية مغايرة.

قد يجد المرء نفسه متخيلاً نسويات 2018 حاضرات في عرض أزياء أيف سان لوران العام 1967. ولن يكون مجافياً لمنطق خطابهن تخيّلهن معترضات على اشتراطه جعل المرأة رجلاً، أو متشبّهة بالرجل، كي تكون قوية أو حرة. ولنا أن نتخيّل المزيد في سياقات أخرى، زمنَ صعود الجسد والتحرر الجنسي، والموجات النسوية المتتالية.. اللوحات، الأغاني، الأفلام! أي فن مؤدب كنا سنرث، وأي صواب سياسي مُقيِّد ومملّ وقمعي.

من نافل القول أن النقاش، بل وشكل من أشكال الفعل، مطلوبان دائماً. يمكن الاشتباك، جدلاً، مع إعلان "أوباد"، ومن قبله سان لوران، وصولاً حتى إلى المقاطعة التجارية. لكن المنع، أو التمتع بسلطة الضغط إلى حد المنع، فهذا ما يخيف، وبشدة. وربما يخلق الوحش الأشرس الذي لم تواجه النسوية مثله في تاريخها: النسوية "المحترمة".