أيام قرطاج السينمائية: الله، سوريا، بشار وبس!

راشد عيسى
السبت   2018/11/10
مسافرو الحرب
الأجواء التي سبقت عرض فيلم "مسافرو الحرب" للمخرج السوري جود سعيد، في مهرجان قرطاج السينمائي الأخير، كانت كلها تشي بأن الأمور ستمضي إلى الهتاف الذي سمعناه من الجمهور عبر فيديو من قلب الصالة: "الله، سوريا، بشار وبس". لقد جاء الهتاف متّسقاً تماماً مع الطريقة التي قُدِّم فيها مخرج الفيلم على الخشبة، وكيف قَدَّم هو نفسه، مذكّراً، في حديثه إلى الصالة، بتفاعل سابق لجمهور "قرطاج" مع فيلمه السابق "مطر حمص"، وهذا ليس سوى بروباغندا خالصة لنظام الأسد.

وفي الأساس تكفي دعوة المخرج سعيد للمشاركة في المهرجان العريق، لنعرف المناخ السائد في تونس، وأي عقل يدير دفة الثقافة في البلد الرائد للربيع العربي. فلقد أثبت صاحب "مطر حمص"، كما يحب هو أن يقدم نفسه على الدوام، أن كل ما حققه من أفلام، على الأقل ما وصَلَنا منها، ليس سوى بروباغندا، ولا نحسب أن الرجل اضطر مرة لإخفاء هويته، فهذا دأبه وراء الكاميرا أو أمامها، مخرجاً، ممثلاً، وحتى في ما يكتب ويقول في مقابلات.

لعلها مناسبة للحديث عن المهرجانات العربية، كيف تفكر، وما تركيبتها، خصوصاً حين نجد أنفسنا أمام مهرجان لبلد حمل بشارة الربيع العربي، لكن من دون أن يحمل، كما يبدو، قيماً جديدة تعبّر بالفعل عن وليد جديد، أو تعطي أملاً بقادم مغاير.

لا يمكن بالطبع أن ندعو إلى منع فيلم أو مخرج، لكن لا بد من قراءة معنى إدراج عروض كهذه في جدول المهرجان. فمن الغريب أنه ليس لدى تونس، البلد النموذجي تقريباً بين بلدان الربيع العربي الذي نجا من دوامة الدم والعنف والحرب، هذه الحساسية تجاه مناصري الديكتاتوريات المتوحشة وما يصنعون من أفلام.

المهرجانات الثقافية، مسرح وسينما وخلافه، هي مؤسسات رسمية تابعة لأنظمتها، ولا يمكن إلا أن تكون صوتها، حتى أننا غالباً ما نقرأ بعض توجهات النظام الحاكم عبر اختيارات المهرجانات. على سبيل المثال، كان واضحاً أن مصر السيسي، عندما قررت التساهل مع نظام الأسد، أو ربما إعاده تأهيله، عبّرت عن ذلك بدعوة شبّيحته إلى مهرجانات السينما والمسرح. ولعلنا نقرأ الأمر ذاته في مهرجانات تونس. فعندما يفتح ذلك البلد الباب واسعاً لبروباغندا النظام السوري، سنعرف أن جزءاً من تركيبة الحكم التونسي ما زال مشدوداً إلى النظام القديم، وأن الربيع التونسي ما زال متردداً.

التوجهات تُترجَم باختيارات الأفلام والمدعوين، من لجان التحكيم وكبار النجوم، إلى صغار الصحافيين، حتى الجوائز كان يتم التحكم فيها إلى حد كبير.

"مهرجان دمشق السينمائي"، الذي لم يُتَح له الانعقاد طوال سنوات الثورة، كان نموذجاً شديد الوضوح. نظرة إلى جوائز دوراته الأخيرة، كانت دائماً تتضمن حصصاً لأفلام إيرانية وأخرى تركية، أيام العلاقات الطيبة بين البلدين. لقد رتّب مدير المهرجان، ومدير "المؤسسة العامة للسينما" آنذاك، فريقاً متيناً من المنتفعين حوله، لهم الحظوة أثناء المهرجان، كانوا هم أنفسهم المدعوين إلى مهرجانات السينما العربية الشقيقة، في مقابل دعوات وخدمات مماثلة قدمها المهرجان السوري لنظرائه. في المحصلة ستجد أن هناك فريقاً عربياً مكرراً من نقاد وصحافيين ومنتجين، وأحياناً مجرد حراس شخصيين، يتنقلون من مهرجان إلى آخر. سنجد أنفسنا كذلك أمام كرنفالات للنفاق، تزوّر وتخفي وتساهم في تكريس الرديء.

كمثال على هذا النفاق، لم يكن في إمكان بعض نقاد السينما الحديث بحرية عن السينما السورية، لأن مدير صفحة سينمائية بارزة حريص على مجاملة مدير "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا، فهي قد نشرت بعض كتبه ضمن سلسلة "الفن السابع"، كما أن الرجل مدعو دائم إلى مهرجان دمشق.

هكذا أيضاً نستطيع أن نفهم كيف أن فيلماً مثل "مطر حمص"، عرض العام 2017، من دون أن يتناوله نقاد مكرسون وجوالون في المهرجانات، بل هم حاولوا التحايل على الكتابة النقدية بمقابلات صحافية، تخفي أكثر مما تكشف، وكان من شأن الكتابة والتحليل أن يضعا الفيلم والمخرج في المكان الصحيح. وعلى ما يبدو فإن بين "المهرجانيين" عِشرة عُمر وسَهَرات وجولات، ولا ينبغي إفساد هذا كله بمقال نقدي!

المهرجانات صوت السلطة، وفي خدمتها، شاء المشاركون أم أبوا، حتى لو تُركت بعض الأمور لتبدو وكأنها تتحرك مستقلة عن الأنظمة. بل إن بعض المهرجانات التي تحمل صفة "الخاص" و"المستقل" غالباً ما تتكفل بالرقابة والضبط على نحو أقسى مما تفعله السلطات نفسها.

وإذا كان هذا حال مهرجانات السينما، فإن مهرجانات المسرح، هذا الذي يفترض أن يكون له التأثير المباشر والتفاعلي مع الجمهور، تبدو خاضعة أكثر من سواها لأوامر السلطات. لقد شاهدتُ بأمّ العين كيف أن بعض المشاركين من نقاد ومخرجين ومهتمين بالمسرح يفتتحون مداخلاتهم بمديح الحاكم، ويشقون أنفسهم نفاقاً في أيام المهرجان كي يحتفظوا بكرسي دائم لهم. حين تلاحظ أن ذلك الفريق المسرحي، هو نفسه تقريباً في كل أعراس المسرح، ستدرك أن حال المسرح لا يسرّ خاطراً أبداً.

مناخ المهرجانات إذاً جاهز لاستقبال أعمال من قبيل "مطر حمص"، وسواها. حين نعرف ذلك سيصبح الهتاف لبشار الأسد، على هامش عرض فيلم سينمائي، مجرد تفصيل لا يقدم ولا يؤخر.

سنحلم إذاً بتبدل ما في مهرجانات السينما، أداء مغاير، توجهات جديدة، استقلال كامل عن السلطات. حينها فقط نعرف أن الربيع العربي قد وصل بالفعل إلى هذا البلد أو ذاك. وإلا فسيستمر الهتاف والتصفيق.