بين "زائدة" لينا مجدلاني و"زائدة" دولوز

منى مرعي
الإثنين   2018/11/05
قررت أن تحرق نفسها تدريجياً، عمليات استئصال جراحية لتتخلص من كل أعضائها
"أيا شي بس ما اندفن بالأرض...ما بدي شارك باعادة تأهيل دورة الحياة بالأرض. ما بدي غذي الأرض اللي غذتني... وإذا كان لا بد إني أحترق بجهنم...فلا بد إني إحترق عبواب جهنم قبل...".

هكذا ختمت لينا مجدلاني (لينا الصانع سابقاً) العرض-المحاضرة بعنوان "الزايدة" والذي كانت قد قدمته العام 2007 في غاليري صفيرةـزملر في لبنان، وفي مهرجان الخريف في باريس.

هو مانيفستو أعادت تقديمه لينا في استديو "زقاق"، تناولت فيه علاقتها مع أشكال السلطة من خلال استحضار فرضية موتها. دخلت لينا مباشرة في موضوعها: لا تريد أن تُدفن ضمن الطقوس التي تفرضها الديانات السماوية ولا تريد أن تعود الى التراب. تريد أن تُحرق جثتها وهي مُصرّة على ذلك. أربعون دقيقة ولينا واقفة خلف الميكروفون تتلو الإحتمالات المتعددة التي تجعلها تصل الى هدفها المبتغى، والذي تحرمّه الديانات السماوية، حتى وصلت الى حل محتمل. اذ علمت أن الأعضاء التي تُستأصل في المستشفيات، تُحرق. عندها قررت أن تحرق نفسها تدريجياً: عليها إذاً أن تقوم بعمليات استئصال جراحية كي تتخلص شيئاً فشيئاً من كل أعضائها.

في سياق منطقي ومترابط، فيه قدرٌ من الطرافة المُتقاطع مع سرديات قد تكون منفرّة  للبعض، تفنّد لينا كل الإحتمالات التي ستحرّرها من أعضائها. لكنها اكتشفت أن القانون اللبناني يمنع عمليات الإستئصال إن لم يتوافر سبب طبي. من هنا توصلت الى فكرة تحويل جسدها الى عمل فني: مستعينة بالفنان الإيطالي بييرو مانزوني، الذي كان يضع توقيعه على أجزاء من أجساد الناس، فقررت لينا أن تطلب من بعض الفنانين أن يوقعوا على أجزاء من جسدها بعد حالة الوفاة، مع إعطائهم الحرية في عرض تلك الأعضاء في متاحف أو غاليريهات. وعلى كل مَن يوقّع التعهد بالحفاظ على أعضائها حتى يصبح هناك قانون يسمح بالحَرق. وقد صممت لهذا الغرض، مدونة، تسمح لأي فنان أو فرد معني بتوقيع عقد لامتلاك عضو من أعضاء لينا بعد حالة الوفاة.

جسد بلا أعضاء
تستحضر لينا، ولو بشكل شفهي من خلال محاضرتها الأدائية، تجارب ومفاهيم فنية سابقة، مثل فن الجسد الذي راج في الستينيات، فأصبح الأداة المثالية لجعل السياسي جزءاً لا يتجزأ من الشخصي والذاتي.

مرجع آخر للعرض هو أنتونان آرتو. قبل وفاته بشهر، وبعد تعرضه للتعذيب في المصحات العقلية، سجّل آرتو، العام 1947 نصاً مسرحياً للإذاعة الفرنسية. يقول في هذا النص، في محاولةٍ منه للتخلص من مدارات الألم، "ليس هناك ما هو أقل فائدة من العضو. عندما تحوله الى جسدٍ من دون أعضاء، حينها ستحرره من كل ردود فعله التلقائية وستعيد اليه حريته الحقيقية". يتقاطع تحرر الجسد عبر تفريغه من مكوّناته الوظيفية، التي تحيل الى الألم في حالة آرتو، مع فكرة "تفسخ الجسد الإجتماعي" الذي تحدثت عنه لينا في سياق محاضرتها. إذ ذكرت طقوس قصاص كل من يقطع أوصال الجسد الإجتماعي ويعارضه، مفسّرة أن كل من يتفرّد ويعارض أحكام وقوانين الجماعة، مِن الطبيعي أن يُعاقَب بمثل ما ارتكب، أي بتقطيع أوصاله وأعضائه، كقطع لسان الكاذب أو المهرطق. والممارسات هذه، ليست سوى محاولات منظمة لتأديب الجسد والتحكم فيه من خلال أطر عديدة.

تحدّث عن هذا الأمر كل من بيار بورديو وميشال فوكو، عن تحوّل المستشفيات والمدارس والسجون وغيرها، الى أطر للتحكم في الفرد، عبر تأديب جسده أولاً، ثم عقله ثانياً. لم تذكُر لينا مصطلح "الجسد بلا أعضاء"، إلا أنه متأصل في عملها. كلمات مثل: الأعداء، اللذة، اللسان، الفم، الجلد، والزائدة.. وأُفكار مثل "التخلص من الألم وربطه بالفكر الديني"، كلها كلمات مفتاحية أو عبارات في عمل جيل دولوز: "الجسد بلا أعضاء" هو مصطلح اشتغل عليه كل من دولوز، وشريكه في الكتابة والفلسفة، فيليكس غاتاري، باعتباره سلسلة ممارسات ضمن مسارات انتاجية مبنية على الرغبة والحدث. والجسد بلا أعضاء(CSO) هنا هو الجسد الذي يعارض تنظيم الأعضاء أو المتعضي (Organisme). والمتعضي هو الطبقة التي تضاف على الجسد وتبني ظاهرة من التراكمات والترسبات والتجمدات، وتفرض على الجسد أشكالاً ووظائف وعلاقات وتنظيمات مسيطرة وهرمية. بمعنى تبسيطي، هي عملية تدجين اجتماعية/جماعية، قد تتمثل أحياناً في إخضاع الجسد إلى سلطة المنظومة الدينية أو الطبية أو المهنية وغيرها. وعندما يتحول الجسد، الى جسد بلا أعضاء، فهو يعطّل بشكل ما، المتعضي، الذي لن يجد ما يسيطر عليه.

أولئك الذين وقعوا أعضاء لينا
لا تكتمل محاضرة لينا الا بالإطلاع على مدونة الموقعين على أعضائها. هذا الخيار الفردي لكل مشاهد، أن يقرأ المدونة حين يعود الى منزله، ينطبق على مجموعة نصوص ابداعية كتبها كل من اختار حماية أعضاء لينا. السينمائية لميا جريج، اختارت أن تمتلك فم لينا لأنها، بين أسباب عديدة، ترى أن فمها هو العضو الأمثل الذي يعبّر عن شخصيتها فضلاً عن أنها تحب طريقة إلقائها. الفم في محاضرة لينا، أساسي. هناك عضوان لن تتخلى عنهما. وللمفارقة، هذان العضوان يحيلان الى ثُقبَي الجسد الأنثوي. ترفض لينا أن تحرق لسانها لأنها لن تتمكن من ممارسة المسرح وبالتالي ستفقد مواطنيتها. اللسان بالنسبة إلى دولوز، هو إحدى آلات-المنبع (Machine Source)، وهو أيضاً مرتبط منذ الأزل بشكل جذري، بفضاء المواطنية الأمثل  لدى اليونانيين، الآغورا. لسان لينا هو وسيلة تحقق بواسطتها اللذة أيضاً ولذة مقارعة كل مواضع التنظيم.

تختار السينمائية جوانا حاجي توما، أن توقع دماء لينا. ففي حين "يشير الدم إلى طبقة اجتماعية أو هوية مجموعة"، تختار المخرجة أن توقع دماء زميلتها، "حتى يصعب جمعك وتتحدين في جسد العالم".

جاكو رستيكيان اختار أن يوقّع خصلاً من شعر لينا: "منذ سنوات، وأنا أجمع خصل شعر. لكني لن أجمع خصلك. لأننا نحب الشعر حين يكون متصلاً بجسدنا... حين يترك هذا الأخير مساحة جلدنا، يتعدّى الجمال الى القرف. خصلات شعرك، كونها متجعدة، تحتمل عدداً لا بأس به من الفراغات. أختار أن أوقع هذا الهواء ما بين الشعيرات المتجعدة". هو فراغٌ آخر متبدل يسعى الى توقيعه رستيكيان.

تكثر النصوص ولا مجال لذكرها كلها، اذ يوجد أيضاً نص جلال توفيق الذي اختار أن يوقع/يحمي رمز العضو الذكري الذي، تستخدمه لينا كعبارة عابرة، كاتباً نصاً مسهباً يشير فيه الى دولوز وآرتو وغيرها من النصوص.

تلك المحاولات الأربع لحماية جسد لينا وتفريغه من أعضائه عبر تفكيكه من جسد المجتمع والسلطة الدينية، تمر عبر عملية تفريغ رمزية ثالثة. النصوص الإبداعية كلها التي كتبها الموقعون، تسمو بالأعضاء الى مكانةٍ نقيضة للموت أو للحرق، لأنها تبقيها حية ما بقيت النصوص قابلة للقراءة، وقد تنحو بها نحو خلود محتمل إذا ما تحولت فعلاً الى عملٍ فني قبل عملية الحرق في حال تمّت. أما أن يتمّ توقيع فراغات الجسد كفعلٍ استعاري، فهو إحالةٌ إلى تفريغ-التفريغ، اذا صح القول، واستحالته نوعاً ما. فوفقاً لدولوز "الجسد بلا أعضاء" له حدوده، إذ أنه مسار لا ينتهي من الطبقات التي تغلف طبقاتٍ أخرى أو تقمعها. هذا لا يعني بالطبع أن لينا تشير الى استحالة عملية حرقها، وبالتالي استحالة التخلص من سلطة الدين والمجتمع المتعضيتين على جسدها، لكنه استطرادٌ مقصود لإرساء حوارٍ لم يكتمل بعد بين "زائدة" لينا مجدلاني.. و"زائدة" جيل دولوز.