"اولاد الفراغ" لرفائيل غلوكسمان: الإدراك المتأخر للأزمة

روجيه عوطة
الأحد   2018/11/11
الأزمة، التي، وعلى اثر إدراكه لها، يعلن غلوكسمان فشل "جيله"
يقدم رفائيل غلوكسمان كتابه "أولاد الفراغ، من طريق الفردية المسدود إلى اليقظة المواطنية"  (دار ألاري) كأنه إعلان لفشل ما يعينه بـ"جيلنا"، اي الجيل الذي كان أهله من أهل الواقعات الكبرى في القرن العشرين، لا سيما في قسمه الثاني، وبالتالي، من أهل ايديولوجياتها، التي انتقلوا من يسارها إلى يمينها آنذاك. وهذا، تماما، ما ينطبق على الكاتب، فهو ابن الفيلسوف أندريه غلوكسمان، الذي كان ماويا قبل أن يغدو، وفي العام 2007 على سبيل المثال، ساركوزيا ثم يتراجع عن تموضعه هذا.

وفي وقت انتقاله ذلك، ينجب ابنا يتعلم في "معهد الدراسات السياسية" في باريس وينطلق "مهنيا" كصحافي ثم كمستشار سياسي بالتوازي مع تقديمه استشارات في مجال الاعلام، ولاحقا، يغدو مؤلفا، ثم، يتوج مساره، الذي ينسحب نفسه وبطريقة روتينية على كثرة من أبناء النخب في زمن انحطاطها، بذكره كداعم من داعمي العهد الماكروني، الذي عاد وانتقده في ما بعد، محددا اياه بعهد "الاستيطقيا السياسية" الذي يخالف برنامجه. بعد ذلك، وفجأة، يكتشف الابن أن كل الايديولوجيا، التي ينتظم مساره بها، اي ما يسميها "الديمقراطية الليبرالية"، قد وصلت إلى أزمة، وفي النتيجة، لا بدّ من طرح حل لها. 

طبعا، الأزمة، التي، وعلى اثر إدراكه لها، يعلن غلوكسمان فشل "جيله"، تتشكل من مجموع  توقعاته المحبطة. فقد كان من المتوقع بحسبه أن تؤدي الديمقراطية إلى تكريس الاختلاط بين الثقافات المختلفة، لكنها، ها هي تنتج حواجز جديدة بينها، وكان من المتوقع أن تؤدي إلى احترام حقوق الإنسان كاملة لكنها ها هي تؤدي إلى انتهاكات وجرائم وابادات على مرأى ومسمع حراسها، وكان من المتوقع أن تؤدي إلى المزيد من التطور لكنها ها هي تؤدي إلى القضاء على بيئة المعمورة، وكان من المتوقع أن ترسي سلاما عالميا، الا انها تعطي العالم كهدية إلى اليمين المتطرف، وقد كان من المتوقع أن تنتج سلطة تعمد إلى السهر على تقدميتها، غير أن السلطة هذه لم تكن سوى دونالد ترامب ومعه باقة من الرؤساء الذين يتأرجحون بين جانبهم الكاريكاتوري وجانبهم الخطير. باختصار، كان من المتوقع، كان من المؤكد، أن الديمقراطية ستؤدي إلى الجنة وأكثر، لكنها، لم تفعل، ولذلك، هي تعاني من أزمة شاملة، ولذلك، "فشلنا هو فشل كبير".

المشكلة في تشكيل غلوكسمان للأزمة، وعدا عن كون هذه الازمة تنم عن توقعات محبطة، تبدو انها مرض أصاب نظامه بطريقة مباغتة، ولا علاقة لهذا النظام، الذي من المفترض أن يكون قوي العافية، به. مثلما أن المشكلة مع أزمة غلوكسمان انه، وبعيداً عن تشكيله لها بتلك الطريقة، يدركها متأخراً للغاية، فمن الممكن الحديث عن مدونة كاملة تدور حولها بدون أن تتعاطى معها بلازمة الفشل والرسوب المدرسيين، وذلك، منذ خمسينيات القرن الماضي أقله حتى اليوم، اي حتى كل الكتب القيمة واللامعة، التي تصدر سنوياً في كل أنحاء اوروبا على العموم، وفي فرنسا على الخصوص.

في هذه الناحية، غلوكسمان يسعى إلى حل الأزمة، وقبل الإشارة إلى كيفية ذلك، لا مناص من القول إنه يشدد على كون احد دوافع مسعاه هو خلاء الراهن من الايديولوجيات. فأهل الواقعات كانوا أصحاب ايديولوجيات، وهذا، على عكس أبنائهم، الذين هم اولاد الفراغ. إلا أن "الازمتية" على طريقة غلوكسمان هي ايديولوجيا الراهن، بحيث تحكمه في كل مستوياته، وعندما تحكمه، لا تؤدي به سوى إلى المزيد من التأزم، وذلك، لأنها تشكل أزماته لكن في الواقع لا تواجهها.

ثمة أزمة تعاني منها الازمتية، ايديولوجيا الأزمة، لأنها، وكلما صارت هي الايديولوجيا، تردد أن الايديولوجيات ماتت بلا أن تعرف ولتستر انها الايديولوجيا الطاغية من الإعلام إلى السياسة. في كل الأحوال، وبعيدا عن أزمة الازمتية، واختصارا، يطرح غلوكسمان حل الأزمة بالانصراف من الذات الفردية إلى الأخرى المواطنية، التي تقوم باعادة بناء عقدها الاجتماعي بين مختلف مكونات الشعب في البلاد الفرنسية، وبين هذه المكونات ومؤسسات الدولة، مثلما تقوم بالتنبه التراجيدي، وليس الكوميدي، إلى حالة الايكولوجيا العامة.

فالحل هو عقد اجتماعي وايكولوجي، ولارسائه، لا بدّ من الانخراط في اللعبة التمثيلية نفسها، وبالفعل، غلوكسمان أطلق جسمه السياسي، اي حزب "place publique"، منذ أيام. فقد الف كتاباً ازمتياً من أجل تأليف جسم سياسي، هذا كله يذكر بعبارة سجلها احد تراجيديي القرن العشرين، وبتصرف: نكتب كتابا عن الازمة من أجل المشاركة فيها، من أجل التحضير لأخرى.