ثورة 1919 وأم كلثوم.."جحا" الإسباني يكشف مصر بالكاريكاتير

شريف الشافعي
الأحد   2018/10/28
سنتيس وأجواء 1919
للراغب في قراءة وطن أو فهم حصاد أمة أن يفتش عن الصورة، فهي الحقيقة التي لا تكذب ولا تتجمل. وهي إن كانت تبالغ، كما في الكاريكاتير، فإن في مركزها الوازن، ربما غير المرئي، ميزان ثقل الموضوعية، والرؤية المجردة.


هل يمكن التأريخ أو الدرس التاريخي على ضوء الصورة؟ الإجابة التي تستحق العلامة الكاملة أن الصورة الأمينة قد تكون بحد ذاتها هي المؤرخ، والباحث التاريخي، والصفحة العصماء في كتاب التاريخ، إذ يُكتفى بها بغير كلام شارح، موارب أو مراوغ.

ماذا عن فن الكاريكاتير ذي الطابع الخاص؟ هو من جهة يقدم تلك الصورة الكاشفة، الوافية، الهاضمة، القارئة للأحوال والبلاد والعباد في توقيت محدد، باختزال وسعة أفق ودلالات لا تتاح للكلمات المطاطة.

لكن الصورة الكاريكاتيرية، من جهة أخرى، وفق تعريفها الأولي، هي التي تبالغ بالضرورة في تحريف الملامح والخصائص والسمات، بهدف التضخيم أو التقليص أو السخرية أو النقد الاجتماعي أو السياسي، أو التأكيد على أمر ما، أو تمثيل ظاهرة معينة، إلى آخر انشغالات الكاريكاتير واستعمالاته المعروفة التي تقترن عادة بالصحافة ووسائل الإعلام.

نعم، قد تصلح صور الكاريكاتير لأن تدلي بدلوها في حقول الإخبار والتوثيق والتأريخ، ليس بوصفها مستندات دامغة كالصور الفوتوغرافية، لكن باعتبار أنها دوال راصدة، وتبقى المعرفة بطبيعة هذا الفن العظيم هي الحصانة التي تضمن كيف يمكن الاستقاء المعلوماتي من تحليله المضموني العلمي لاستنباط حقائق وتعيين ظواهر، جنبًا إلى جنب مع الاستمتاع بجمالياته والتحليق في فضاءاته وتخييلاته.

مصر في مطلع القرن العشرين، وجه ناصع للنهضة والثورية والمدنية وإشراقات العلوم والآداب والفنون، والأهم من ذلك: الأمل والطموح والتطلع إلى مستقبل مشرق، في ظل الإيمان بالتنوير والجامعة والكتاب وحرية العقيدة والتعددية الإيديولوجية والسياسية وحق الشعب في تقرير مصيره المقترن بالضرورة بالتمصير والحداثة والفكاك من قبضة الاستعمار البريطاني.


طرق شتى يمكن بواسطتها العودة إلى تلك السنوات الزاخمة، ليس فقط لقراءتها وتحليلها، وإنما للعيش فيها لحمًا ودمًا وضميرًا وكفاحًا. كتب المؤرخون ما كتبوا، ودوّن السياسيون ما دوّنوا، وصنّف الأدباء ما صنّفوا، وشخّص المسرحيون والسينمائيون والتشكيليون والفنانون ما شخّصوا، وللمتعطش في النهاية أن يختار منهله الذي يلائمه.

هذا المنهل، قد يكون في أحد أقسام التاريخ بالجامعة، أو في صفحات مذكرات سعد زغلول، أو في إحدى روايات نجيب محفوظ "الثلاثية"، أو في أغنية لسيد درويش "قوم يا مصري"، أو في تمثال لمحمود مختار "نهضة مصر"، إلى آخر هذه الوجهات والمشارب.

الجديد، اليوم، من هذه الموارد، هو ما يفجّره غاليري "خان المغربي" في حي الزمالك بالقاهرة، وهو معرض الكاريكاتير للفنان الإسباني سنتيس (1881-1945)، المعروف بأنه "أبو الكاريكاتير المصري"، ففي هذا المعرض - بدوره - رحلة روحية وذهنية إلى وجه مصر الممتلئ في القرن المنصرم.


عشرات الأعمال النادرة لـ"سنتيس" يكشف عنها المعرض الاستثنائي، الممتد حتى مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، تبلور حياته في القاهرة، التي عاش فيها وعمل بصحافتها، وكان قد جاء من فرنسا التي تقيم فيها أسرته بدعوة من الأمير يوسف كمال، لتدريس مادة "الحفر" بمدرسة الفنون الجميلة عند إنشائها في أوائل القرن الماضي.

انخرط "سنتيس" في تفاصيل الحياة بالقاهرة حتى النخاع، وخالط النخب الثقافية والسياسية، واعتبر نفسه من أبناء الوطن الذي يعج بالتغييرات الاجتماعية الكبرى التي أفرزت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، وهي الثورة التي احتضنت سائر تيارات الشعب، والتقت حولها حركة الفنون والآداب، وأنتجت نضجًا ملموسًا امتد أثره إلى الدستور والحياة النيابية والحزبية في النصف الأول من القرن العشرين.

أطلق "سنتيس" فرشاته قرابة أربعين عامًا ليشرّح النسيج المحيط من أرض وفضاء وبشر وآمال وآلام وأحلام وكوابيس، من مستهل القرن حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وساعدته المنابر الصحافية ذائعة الصيت في ذلك الوقت، وعلى رأسها مجلات "الكشكول" و"الاثنين" و"الفكاهة" و"الهلال" و"روز اليوسف"، وغيرها.

انطلق "سنتيس"، الذي أصدر كذلك مجلة "جحا" باللغتين العربية والفرنسية، خارج دائرة اهتماماته الأولى كرسام للنساء الجميلات، ليكون بعد فترة وجيزة من العمل الدؤوب فنان الشعب وصوت الثورة ورائد فن الكاريكاتير الاجتماعي والسياسي، واشتهر بتصوير "شخصية الأسبوع"، لتكون بورتريهاته لنجوم السياسة والأدب والفن غوصًا عميقًا في شخصياتهم وتحليلًا للمسكوت عنه في أعماقهم.

"سنتيس"، الذي جسّده النحات المصري محمود مختار في تمثال بملابسه المميزة وربطة العنق، تحرر تمامًا من سمته الرسمي كأوروبي أنيق، لينحاز بامتياز إلى الطبقات المتوسطة والشعبية، أولئك الذين يطوف معهم في المظاهرات، ويسهر معهم على المقاهي ليستمع لأم كلثوم، ويتلصص بصحبتهم على أوبريتات سيد درويش المسرحية.

هؤلاء الشخصيات جميعًا، من المعروفين والمغمورين والمجهولين، كانوا أصدقاء فرشاة "سنتيس"، وعلى رأسهم سعد زغلول الذي صوّره الفنان على هيئة سبع جسور، يجدر به أن يقود الأمة، ولا تخلو اللوحة من بسمة، هي روح الفن الساخر، بدون أن يعني الهزل الانتقاص أو الاستهزاء.

لم يفرق "سنتيس" في نقله "طَعْم مصر" ومزاجها الأصيل، بين تصويره زعيمًا مثل مصطفى النحاس، وفنان كسيد درويش، ورجل بسيط مثل الكاتب العمومي أو المرأة الشعبية، وشخصية خيالية كجحا، فهو فنان المنظر والموقف والحالة، وهو قد يعبر عن الحرب العالمية من خلال ترسانة أسلحتها، كما قد يمكنه أيضًا أن يرصدها هي وتبعاتها من خلال قسمات عجوز بائس يعاني ويلات الدمار ويبسط يديه للسماء.

من زقاق صغير إلى البلاط الملكي، ومن صندوق الدنيا إلى صندوق الدَّين، ومن عصابة خطف السيدات إلى عصبة الأمم، ومن مظاهرات الشارع إلى جلسات البرلمان، ومن حمار جحا إلى مقاعد حفلات أم كلثوم، راح "سنتيس" يتنقل بخفة حاملًا ريشته العجائبية، التي أبت دائمًا إلا أن تصطبغ كلية بدماء قلوب المصريين، وبألوان علم البلاد.