"صديقي باخوس" لريم الجندي: فلنشرب نَخْب المدينة

محمد حجيري
الأربعاء   2018/10/24
ريم وعاصم
تختار الفنانة التشكيلية ريم الجندي "صديقي باخوس" عنواناً لمعرضها الجديد في "دار المصور"-بيروت(*)، لترسم ما يمكن تسميته "مذكرات بصرية" في 23 لوحة تشكيلية، يحضر في بعضها طيف الغرافيتي او رسم الجداريات والبوب آرت، وتتمحور حول روح المدينة وناسها ولغة سهرها وجلساتها وشرفات حياتها، أي المقاهي والحانات. 

وباخوس، في الميثولوجيا الرومانية (أو ديونيسوس في الميثولوجيا الإغريقية)، هو إله الخمر ومُلهِم طقوس الابتهاج والنشوة التي تثور في أعماق الإنسان. ومع بروز ثقافة الحداثة، انتقل الإله من الأسطورة إلى الحياة اليومية والعادية، وهو من الأساطير التي شغلت بال الرسامين ولوحاتهم. فمن تيتيان إلى كارافاجيو، وصولاً إلى بيلاسكويث، لم يكفّ الرسامون النهضويون عن رسم باخوس واحتفالاته الخمرية، ولا ضرورة لتعداد كل ما قيل حوله في الفلسفة (نيتشه وغيره) والنثر والشعر.

 
لا تركز ريم الجندي على أسطورة باخوس بشكل مباشر وتقليدي، بقدر ما تستقي الرمزية والدلالة الثقافية منه. وعدا باخوس الذي هو الخمر (ويسكي، بيرة وطنية)، هناك المكان (المدينة، بيروت) والأشخاص (الغرباء، الأصدقاء، العائلة). ومن يعرف ريم الجندي وعلاقتها بشارع الحمرا ومقاهيه ورصيفه ولياليه، يدرك مدى حضور هذا المكان في لوحاتها وأعمالها وألوانها. باخوس، في الأسطورة، والد الفن الشعبي. وغنى لأتباعه وهو في قمة النشوة، وغنى معه مريدوه، وغالباً "نساء متوحشات" أطلقت عليهن تسمية الباخوسيات نسبة إليه، وكانت هذه الطقوس الماجنة والغريبة تقام في الغابات حيث يجتمع مريدوه، لا سيما الشعراء منهم الذين ينظمون المرثيات. لكن لأسطورة باخوس مساراً آخر في لوحات ريم. فباخوسياتها وباخوسيوها، هن وهم ابناء المدينة وصنّاع قلبها النابض، لهم طقوسهم في الحانة المدينية العامرة، وليس في الغابة. وباخوس ريم، ليس فقط إله الخمر والبهجة، "لكنه أيضاً صديقي الذي أخذ بيدي"، كما تقول في تعريفها لمعرضها، وحضوره قبل حضور لوحتها وفكرتها. إذ تحضر اللوحة لتكون مذكراته مع ماضيها معه،: "تعرفت عليه حين كنت طفلة. كنت أراه على موائد الأحد البيتية البطيئة الهانئة ومع كأس العرق في يد أبي. في ذلك الزمن كان لباخوس وجه الاطمئنان اللذيذ". وهو ليس فقط وجه الاطمئنان الآتي من روض الطفولة وذاكرتها الطرية، اذ يأخذ باخوس، في مرحلة لاحقة من حياة ريم، صفة "المخلّص" في أوقات غير عادية. بل في مرحلة ما، صارت الفنانة شابة تدلف إلى أمكنة كانت بيروت تعيش "حربها"، و"كان الرعب هائلاً، لكن باخوس ساحر المتع وجد الحل. قادني إلى الزوايا الصغيرة في شوارع المدينة حيث يجلس الأصدقاء والغرباء على البار يشربون كؤوسهم غير خائفين من الموت". واللاخوف هذا فيه شيء من التهور، إذا جاز التعبير، وشيء والجرأة والشجاعة والحرية، أو لعله التماثل المرحليّ مع الباخوسية والديونيزوسية. فهذا الإله الإغريقي/الروماني غير معترف به من طرف آلهة العقل، لأنه رمز للجنون والتهور، رمز "انحلال" القيم السائدة. باختصار، هو رمز الحياة، وما تستقيه ريم الجندي من باخوس هو حب الحياة وحب الحب. فأهوال الحرب لم تستطع منع الناس من فرحهم وبحثهم عن النشوة والبهجة، وزمن البؤس الاقتصادي في مرحلة السِّلم أيضاً لم يمنع الناس من ارتياد الملاهي والحانات بحثاً عن "حب الحياة".

ومن يراقب "ثقافة باخوس" في بعض شوارع بيروت ومناطق أخرى، ينسى الأزمات وتراكمها، ويقول إننا في عالم آخر، هو العالم الذي تصنعه نشوة الكؤوس واللقاءات حولها. وإذ ترسم ريم الجندي "مذكراتها" عن مرحلة، فهي ترسمها في مرحلة انتفاء "خلاصية" باخوس، أي عندما صار صديقاً عادياً وعابراً، بل لوحة يومية: "لم أعد أحتاج لباخوس كي يخلصني. هو فقط صديقي. نتشارك معاً اللهو والضحك مع الساهرين، ليعود فيرافقني سيراً على الأقدام إلى البيت آخر الليل"... واللحظة البصرية المرسومة تأتي مرفقة برموز في خلفية اللوحة، بدءاً بالعنب والورد والطيور، حتى الطائرة التي ربما تحيل إلى الهجرة والسفر.

 

يبرز الحضور الذاتي لريم الجندي، في معظم لوحاتها، كما في معظم معارضها السابقة. في بداية التسعينات، رأيناها الأنثى الحامل في لوحة، واليوم ابنها عاصم بشعره الطويل ولحيته الكثة، وقد صار في المهجر. بدأ ظهور الابن جنيناً، وصار الآن ملتحياً ومتمرداً. سنوات شهدت تحولات في تجربة ريم الفنية، وشهدت تحولات سياسية واجتماعية وحياتية انعكست في أعمالها، وكلها تأتي في سياق متداخل ومترابط وذاتي. تشطح الأعمال مرة نحو "الأيقونية"، ومرة نحو الموقف الإنساني-السياسي (القضية السورية)، لكنها في المجمل تجسد ذاتية الفنانة ومذكراتها وذاكرتها. وبقيت طقوس باخوس شاهداً على كل الرسوم، واليوم صارت الطقوس معرضاً، نلمحها في جلسات ريم مع الصحب والأصدقاء او في تدخين سيجارة. وحين نقول الخمر، فهو فليس مجرد مشروب نحتسيه، فهو له تداعياته الشعرية والفنية والثقافية والمدينية. وريم الجندي ترسم النشوة والمتعة والبهجة وتزجية الوقت في الأمكنة الفردية الحرة خارج النسيج الأهلي المتراص والفج. 
 
اللافت في لوحات ريم الجندي تسمية لوحة باسم مقهى "الويمبي" وأخرى باسم حانة "شي اندريه". نقرأ هذين الإسمين وغيرهما، ونتفاعل مع الإشارة إلى معالم شارع الحمرا الذي ألِفته ريم الجندي في ثمانينات الحرب اللبنانية، مروراً بتسعينات السلام المعلق وبيروت المتحولة التي لا شيء فيها يبقى على حاله. ورغم طوفان المقاهي والحانات، بقي للأمكنة الزائلة (مقهى المودكا والويمبي)، بُعدُها الاسطوري الذي لا يزول من الوجدان، ويتجسد في القصة واللوحة والذكريات والقصيدة والرواية. أما الأمكنة المستحدثة فتبدو عابرة سريعة التلاشي، ولا تمتلك هالة خاصة بالمعنى الثقافي، أو لا تخص جيل ريم الجندي، وربما يتعلّق بها جيل آخر...

(*) يستمر المعرض لغاية 21 تشرين الثاني/نوفمبر2018.