آرا غولر.. "عين اسطنبول" التي ترى الواقع قبل الفن

جوزيف الحاج
السبت   2018/10/20
عوالم غولر، القاص المدهش، غنية بمرجعياتها الأدبية والتشكيلية والسينمائية
مع رحيل المصور التركي الأرمني الأصل أرا غولر (1928- 2018) Ara Güler تفقد تركيا والعالم عيناً أقلقتها التحولات الحداثية. سمّي بـ"عين إسطنبول". في 1962 حاز لقب "معلّم اللايكا". في السنة نفسها خصّته مجلة "كاميرا" السويسرية بعددٍ خاص. اختير واحداً من أفضل عشرة مصورين عالميين في "فوتوكينا 1967"(ألمانيا)، وفي العام 2000 نال لقب "مصور القرن في تركيا". وفي 2002 منحته الحكومة الفرنسية وسامي جوقة الشرف والفنون والآداب.

صوّر إسطنبول، المدينة الأسطورية لحظة احتدام الصراع بين التقليد والحداثة: الأحياء الشعبية، المرافئ، المهن المتواضعة والوسط التجاري، حيث حلّت السيارات مكان العربات، شاهداً على لحظة ظهور علامات التحول.

في نص بعنوان "سيّد اسطنبول" وصفته الفرنسية لورا سيراني بأنه "معروف في إسطنبول التي أمضى فيها عمره. من كبار مصوري القرن العشرين، ظريف وبشوش. سافر حول العالم مرات، ترك نظرته عند كل حجر وزاوية في بلده الشاسع تركيا". في نهاية الأربعينيات، وبعد نيله شهادة في الاقتصاد من جامعة اسطنبول تلبية لرغبات عائلته، احتار بين المسرح والرسم والسينما، مع مثابرة على التصوير الفوتوغرافي من دون نية ممارسته بادئ الأمر: "ما كان في البداية لعبة وتسلية مجانية وفّر لي فيما بعد الرضى التام. كانت الفوتوغرافيا بمثابة لغة ووسيلة تعبير مارستها وقاربتها جاهلاً غناها وقدراتها التعبيرية عن الذات. لقد أعادت لي الثقة والأمل لاختلافها عن عالم التجارة والأعمال الذي أرغمت على سلوكه" قال.

بدأ في 1948 صحافياً في "يني اسطنبول" اليومية. عمل مصوّراً في مجلة "حياة" وجريدة "حرييت". مع دخول تركيا ودول المتوسط مرحلة المتغيرات الكبرى في بداية الخمسينيات بدأ تصوير اسطنبول والمناطق والنائية. لعب دوراً هاماً في تعريف العالم بتنوع بلده. أصبح مراسلاً لـ"تايم لايف" و"باري-ماتش" و"شتيرن"، فغطى لها أحداث بلده من زيارات المشاهير وصولاً الى الأحداث السياسية الممهدة لإنقلاب 1960 العسكري وتداعياته. أطلقت عليه المجلات اسم "رجلنا في اسطنبول".
شخصيته المميزة وإخلاصه وطدت صداقته مع أشهر مصوري العالم: مارك ريبو، هنري كارتييه- بريسون، جان- لو سييف، ماري-إيلين مارك، برونو باربي، جوزف كودلكا. دخل "ماغنوم" بطلب من مؤسسها هنري كارتييه- بريسون ومارك ريبو، مضاعفاً من إبداعاته ليُعد في 1961 واحداً من بين أعظم سبعة مصورين في العالم.

أعماله غنية التنوع، إستثنائية في احترامها وتعاطفها مع الإنسان وشقائه في عمله. في صوره عن مدينته قدّم قصصاً عن الأمكنة والعمال صانعي نشاطها من فجرها حتى آخر ليلها، أولئك الذين يخرجون باكراً وينامون على طاولات الحانات. من دقة التأطير المقرّب ومن تكثيف اللون الأسود إستمدّت صوره قوتها لتخطف أنظارنا الى الجوهري فيها. للشكل أهمية فيها شرط وجود المعنى. أحبّ ناس اسطنبول وتعلق بأمكنتها فكانت النتيجة "بورتريه" مدينة في تحوّل مستمر، من عمق أحيائها العريقة الى وسطها الأحدث. مدينة فقدت حرفييها وعمال الخردة وبائعيها الصغار وصياديها. لم يوثق غولر للحداثة بل توقف عند كل ما تهدده الزوال.  مشاعر الحنين المضطربة كانت دافعه الوحيد. في "اسطنبول: ذكريات مدينة"، الكتاب الذي جمع صوره مع نصوص أورهان باموك عن ذكريات طفولته في المدينة نفسها، ردد الأخير كلمة "huzun" التركية وتعني الحزن، المشاعر الأكثر تطابقاً مع أجواء المدينة في حقباتها الأخيرة. إنه ليل اسطنبول حيث تلتمع أضواء لا تمت الى البذخ، هي من نوع آخر مختلف، إنها مصابيح الشوارع والأحياء القديمة والسيارات والسفن المبحرة في ضباب البوسفور السميك، تعكسها حجارة الطرق المبللة بالمطر.

عوالم غولر، القاص المدهش، غنية بمرجعياتها الأدبية والتشكيلية والسينمائية، إنها الأوساط التي نسج غولر صداقاته معها: "عالمنا خلقه فنانون بحثت عنهم واحداً واحداً وصوّرت وجوههم". صور الوجوه جزء آخر من عمله، نرى فيه شاغال، كالدر، بيل براندت، أورسون ويلز، إيليا كازان، فيديريكو فيلليني، برتراند راسل، ياشار كمال، أورهان باموك...

كما نعجز عن فصل دوانو عن باريس، وروبرت فرانك عن نيويورك كذلك الأمر مع غولر، هو "مشّاء اسطنبول" وعينها. الوصول الى مشغله جولة في ذاكرة المدينة، شوارع ضيّقة معتمة تقود إلى المبنى القديم حيث ولد ونشأ، والتي لا يزال قائماً، اشتراه والده الصيدلي الثري، محاولاً إقناعه بالتخلي عن مهنة التصوير، مقدماً له الطابق العلوي، لكنه استخدمه كأستوديو تصوير، غطى جدرانه بصور بيكاسو، دالي، تنيسي ويليامز، جاك بريفير.

في شخصية غولر طفل بريء. وصف حياته بأنها "سلسلة من اللقاءات السعيدة". عشق الواقع وتباهى بلقب "مصوّر": "أهتم بالواقعي أكثر من الفني" قال. عُرف بقيمه الإنسانية وإحترام الناس الذين صورهم. أحبّ اللقب الذي أطلقه عليه كارتييه ـ بريسون "شيبشاكدجي" مفردة تركية للدلالة على مصوري المدينة الجوالين في الخمسينيات. 

يتذكر مهمة تصوير سد في منطقة نائية في 1958 لمجلة "حياة": "وضع حاكمها بتصرفي سيارة مع سائقها. وصلنا، تسلّقت جبلاً يعلو السد، كان الضوء غير مناسب للتصوير. انتظرت ساعات. صوّرت وعدت لأجد السائق في حال من الغضب. تشاجرنا. اختار طريقاً مختصرة ادعى معرفتها، لكننا ضللنا في متاهات الأناضول. داهمنا الظلام. وصلنا الى قرية صغيرة. دخلنا مقهى. بعدما تعوّدت عيناي على إنارته الخفيفة لاحظت أنهم يستخدمون أعمدة حجرية رومانية بدل الطاولات. في الصباح تجولت في القرية، التي كانت تعيش في الحقبة الجمهورية وفي الحقبة الرومانية في الوقت نفسه. صوّرت طريقة حياتهم. كانت الآثار الرومانية تملأ المكان. نشروا صور السد فقط، وعندما حدثت رئيس التحرير عن هذه القرية، سخر قائلاً: "قضيت كل هذا الوقت لتلتقط صوراً للحجارة!". صحيفة بريطانية اهتمت بالصور، فنشرت بعضها. غير أن "هورايزون ماغازين" الأميركية  خصصت  للتحقيق 10 صفحات، مؤكدة أن القرية هي "أفروديزياس" الرومانية. منذ ذلك الوقت لم يتوقف التنقيب في المنطقة". 

في رأي غولر: "لا علاقة للتصوير الصحافي بالفن. لا أعتقد أن الفوتوغرافيا فن فقط، إنها أهم. الفن يقرفني رغم أنه يسعد الناس ويساعدهم على فهم بعض الأمور. لست مصوراً فوتوغرافياً، أنا صحافي". يدافع غولر في كل مرة عن وجهة نظره "الفوتوغرافيا مذكرات مرئية للتاريخ المعاصر": "أنا باحث عن الحقيقة. المصورون عيون العالم، يشاهدون نيابة عن الآخرين، يجمعون ويدوّنون التاريخ المرئي للمستقبل، لذا يجب عليهم تجنب المبالغة".

عتب على الغربيين: "يعتبرون أنهم أكثر أهمية منّا. في معرضي "مئة وجه من الأدب التركي" عن شخصيات أدبية وفنية تركية، لم يتعرّفوا على عزيز نيسين أو ناظم حكمت. تلك هي خطيئة أوروبا. اسطنبول تعني لهم نهاية أوروبا وبداية الشرق. أفكارهم إمبريالية" قال.
في سنواته الأخيرة، ارتاد يومياً مقهى "آرا كافيه"، تيمناً باسمه، والكائن في "بناية غولر"، مبدياً تزمره من تغيّر وجه المدينة، وحزنه لإجتياح الإسمنت وهدم جسر "غالاتا" حاضن الباعة والمشردين- "كانت اسطنبول روحاً وحالة إنسانية، أما اليوم فغدت مكاناً مختلفاً!"- متمنياً أن تستعيد اسطنبول زمن صوره.
فهل استطاعت الصور يوماً استرداد أزمنتها؟