وطنه الثاني إسرائيل.. حول تكريم لولوش في القاهرة

هشام أصلان
الأربعاء   2018/10/17
ما لا أفهمه هو الإصرار على أن زيارات لولوش العشر إلى إسرائيل التي يتغزل بها.. لا تُعدّ دعمًا
تربينا على كراهية إسرائيل والتأفف ممن يحبونها، وعلى أن تطرُّفنا في تلك الكراهية أضعف الإيمان. غير أن المسألة، في ما يبدو، لم تعد محسومة في الوعي الجمعي الحديث. للدقة، لم تعد محسومة تلك الحدود الفاصلة بين ما هو تطبيع، وما هو ليس كذلك. كنّا قديمًا نكره رائحتها إذا هفّت علينا من بعيد، ونشعر بذنب قلّة الحيلة. بينما اليوم نلجأ، مع كل محكّ، إلى النقاش في أبعاد الأمور وماهيتها. هل يأتي يوم يسخر فيه أبناء جيل أصغر من مفاهيمنا ومكوّنات وعينا، كما يسخر بعضنا من مفاهيم أجيال أسبق؟ أتساءل في لحظة ارتباك حقيقية. أفكر أثناء انسحاب إلى متابعة الجدل حول قرار تكريم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، للمخرج الفرنسي كلود لولوش، في دورته المقبلة. لولوش مُدان، في رأي سينمائيين مصريين، بمناصرة الصهيونية.
المنتج محمد حفظي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي، قال للزميل أحمد فاروق في جريدة "الشروق"، إنه لن يتراجع عن قرار التكريم. يرى أن اتهام لولوش بالصهيونية شائعة، لا أساس لها من الصحة، وأن الرجل، بحسب تعبيره: "ليس لديه موقف معادٍ للعرب أو الإسلام"! وتابع: "ليس كل مخرج أو فنان زار إسرائيل نعتبره عدوًا للعرب. لو تصرفنا بهذه الطريقة هنفضل في عزلة بنخاطب نفسنا فقط".

بصراحة، لم يأت في تصوري وصول الجدل إلى نغمة تبريرية باتت تقليدية حول ضرورة الانفتاح على الآخر، وأضرار الانغلاق على النفس وما إلى ذلك. أفهم جيدًا أن مقاطعة الأعمال الفنية التي يُحب أصحابها إسرائيل لم يُعد لها منطق عملي. نمرر الفكرة طالما أن العمل نفسه لا يدلس لصالح الصهاينة. لكني تصورتُ هذا أمرًا مختلفًا. أنت لست أمام مشاركة فيلم للرجل في المهرجان المصري الوحيد المعترف به دوليًا، بل أمام التفكير في ضرورة تكريمه دونًا عن غيره، أنت أمام إثارة الحفيظة والاقتراب من الشبهات بلا مبرر!

افتَرَض رئيس المهرجان أن ما يقوم به الكيان الصهيوني، أفعال تزعج العرب والمسلمين، بينما نفترض أنها مزعجة لمعاني الإنسانية جُملة. افتَرَض، في حُكم مُرسل، أن هذه الاتهامات هي محض إشاعات، من دون أن يقول لنا أين الحقيقة. ولا أفهم، صدقًا، ما الذي على لولوش فعله ليثبت تأييده للصهيونية أكثر من زياراته المتكررة واعتبارها وطنه الثاني: "أنا سعيد بالحضور إلى تل أبيب، وسعيد للغاية كوني في إسرائيل. هي بعيدة من فرنسا، لكني كنت أشعر دائماً بأني قريب من هذا البلد، وقد زرت إسرائيل 10 مرات، وعندما أكون هنا أشعر أني في وطني. هذا بلد أحبه كثيراً، ودائماً تعجبني فكرة أن المرء هنا يعيش مصاعب ومخاطر حيث يتصارع الماضي والمستقبل مع الحاضر… لكن التوتر وعدم الاستقرار يجعلان التواصل الإنساني أقوى"، يقول لولوش، ضمن كلمته، في مهرجان الفيلم الفرنسي في تل أبيب، وفق مقال لأمير العمري.

ربما يفهم المرء وجهات نظر تتبنى أهمية الفصل بين الفنان وموقفه السياسي، وإن اختلف مع وجهات النظر هذه في سياقات بعينها. لكن ما لا أفهمه هو الإصرار على أن زيارات لولوش العشر إلى إسرائيل، وغزله بها، لا يعد دعمًا لها كدولة، وبالتالي دعمًا لجرائمها، خصوصًا لو وضعنا في اعتبارنا أن هذه دولة لا تستطيع الفصل بين حكومتها وشعبها.

وبنظرة إلى أهمية الرجل سينمائيًا، ستجد من يشير إلى عدد من أفلامه القديمة، وحصوله على أوسكار أفضل إخراج في العشرينيات من العمر. بينما هناك من يرى، بين المتخصصين، مبالغة في تفخيم لولوش لتسويق ما يحدث.

يقول رئيس قسم السينما في الجامعة الأميركية، الناقد مالك خوري:
"تسويق إدارة مهرجان القاهرة السينمائي، لمخرج معين، عبر تحوير وتزييف موضوع مهم في تاريخ السينما، عمل لا ينم عن مهنية. بل يعبّر عن هبوط واضح في مستوى التعاطي مع قضايا تؤثر في سمعة المهرجان. فكلود لولوش ليس من مؤسسي الموجة الجديدة، ولا باحث جاداً يعتبره جزءاً منها. وفيلمه "رجل وامرأة" مهم بالتأكيد، لكنه لم يُقيّم في إطار الموجة الجديدة إلا من نقاد غير متخصصين، أما في ما يتعلق بمسألة الصهيونية فهي واضحة وضوح الشمس".

إشارة مالك خوري إلى "سمعة المهرجان" أخذتني إلى سؤال حول تبعية المهرجان لدولة، لدى نظامها - شأن الأنظمة العربية - صداقة مع إسرائيل. غير أن المخرج مجدي أحمد علي، ذكّرني، ضمن مناقشات "فايسبوك"، كيف أن هذا التكريم قد يكون مُعكّرًا لمياه لم تتلوث بعد، ذلك أن القائمين على تنظيم المهرجان نجحوا في أن يظل مُقاطعًا لأي شيء يخص إسرائيل منذ نشأته.

منذ شهور، احتفل الكيان الصهيوني بمرور 70 سنة على تأسيس دولته، في أكبر فنادق القاهرة المطلة على أكثر ميدانيها رمزية، بعدما كنا نحتاج نظّارات مُعظّمة لرؤية العلم الإسرائيلي المتدلي على استحياء من شرفة عالية لا يعرف كثيرون أنها شرفة السفارة. هكذا يفكر الواحد في ما يحدث من تقليب لطينة المفاهيم وتغيير الوعي تدريجيًا، وأسئلة مفتوحة حول أن قدرنا نكون شهودًا على عصر تتغير فيه جينات الأفكار والعفوية الحميدة للرفض أو التأييد، وحول احتمالية اقتراب يوم تُقتل فيه قدرتنا على الدهشة.