العشوائية في الموسيقى الإلكترونية.. ما زالت ممكنة؟

حسن الساحلي
الثلاثاء   2018/10/16
لا مجال لكثير من العشوائية في سياق الأنظمة النيوليبرالية
أطلق محمد صفا، ألبومه الأول The Subtleties Of Elevated Things (ميكساج: جاد طالب، Georges Tabatatze، ماسترينغ: زياد مكرزل)، من إنتاج شركة Modular Mind، التي يديرها الموسيقي اللبناني Kujo وقد شارك الشهر الفائت مع الأخير ومجموعة من الموسيقيين الإلكترونيين (Mas، Hkkptr، Nternal Bserver)، في جولة حفلات حول العالم بدأت من طوكيو، وسيول، وانتهت في برلين وأمستردام. تتشارك المجموعة فهماً سياسياً و"تفكيكياً" للموسيقى وتتقاطع بنيوياً ومفهومياً مع حركات معمارية، بشكل خاص الوحشيةBrutalism، ما ينطبق على ألبوم صفا (عمل مهندساً معمارياً قبل تحوله للفن والموسيقى مؤخراً) الذي يتمحور حول مفهوم "العمارة المتهالكة" وعلاقة الصوت بالفضاءات المكانية المتنوعة التي عاش ضمنها في بيروت.

تشكلت هذه الشهادة أدناه من إجابات صفا على أسئلة طرحتها عليه "المدن" بمناسبة إصدار ألبومه الأخير، وقد أعيد ترتيبها مع إضافات لكاتب السطور لتشكل نصاً متسقاً. ويتمحور الحديث عن أحوال الموسيقى الإلكترونية اليوم، والتناقض الذي تحمله فكرة العشوائية ضمن الواقع الذي نعيشه.


الموسيقى الإلكترونية كانت موسيقى ثورية في الأساس، ليس فقط من ناحية الأنظمة التي تتبعها، بل أيضاً من الناحية الإجتماعية والطبقية المرتبطة بالجمهور، أمكنة العرض، والمنتجين الإلكترونيين الذي أتوا من خلفيات غير موسيقية بالمعنى التخصصي. لكن مع تحولها إلى أمر واقع، تمكن السوق من احتوائها وتنظيمها بالشكل الذي يناسبه، وقد ساعد طابعها العلمي والتكنولوجي في أن تصبح سلعة عبارة عن معادلة رقمية يصار إلى تناسخها وتبادلها، لتصبح دارجاً وذوقاً عاماً، لا يمكن للموسيقى الحياد عنه بسهولة.

ورغم أن الضجيج والعشوائية يعتبران حجر أساس في سردية الموسيقى الإلكترونية عن نفسها، إلا أني صرت مقتنعاً أن لا مجال لكثير من العشوائية في سياق الأنظمة النيوليبرالية أو "ما بعد الإنضباطية" التي نعيش ضمنها، والتي تعطي الوهم بالحرية، بينما تسيطر على الخلفية. الخيارات بالنسبة إلى الموسيقى تصبح يوماً بعد يوم محسومة سلفاً، كما هو حال السوق الذي تحتكره شركات كبيرة بينما تمنع الأنظمة التي نعيش ضمنها، سن أي قوانين لتنظيم عمله وتفعيل الحرية التجارية والمنافسة التي تتحدث عنها بشكل دائم. ينطبق هذا على الصوت والضجيج الذي يتحرك على هواه في الظاهر، ليعطي دليلاً على نشاط الإستثمارات والإقتصاد، بينما تقوم بالسيطرة عليه والتحكم في مآلاته في الخلفية.

في كتابه "الضجيج" يخبرنا جاك أتالي، عن دور الموسيقى في هيمنة الأنظمة السياسية عبر التاريخ، حيث تعيد الأصوات تدوير نفسها في حلقات تكرارية لتصبح أداةً في يد النظام الحاكم، وهو ما ينطبق على الأنظمة الليبرالية في زمننا الراهن، التي في خضمّ احتياجها للضجيج تطرح السؤال الإيكيولوجي حول إمكانية تدويره ليصبح إشارة بالإمكان استعمالها بشكل دائم.


يمكننا الحديث عن الخورازميات والمنظومات والبنى الصوتية السائدة اليوم، وفهم التأثير الذي شكلته العقود القليلة الماضية من عمر الموسيقى الإلكترونية على البرمجيات المخصصة للموسيقى (مثل Ableton، Max، Cubase ... )، وبشكل خاص الفرق الأولى البارزة مثل آيفيكس توين وغيرها. طبعاً لا مهرب من استعمال هذه البرامج ولا أريد مقاطعتها، لكن من الواجب معرفة كيفية عملها وقراءتها بشكل نقدي. لقد تطورت هذه البرامج تدريجياً، بفعل موجات وفرق موسيقية معينة، وقد خلقت مع الوقت حلولا سريعة للمنتجين الإكترونيين، مثل القوالب Template، والتأثيرات الجاهزة التي يمكن استعمالها، ما سمح بإنتاج الموسيقى منزلياً.


لكن الخيارات التي تقدمها هذه البرامج من منهجيات وتصنيفات وغيرها، هي خيارات محدودة، ومع الوقت حصرت "الممكن" ضمنها. حتى عندما تستعمل برامج ذات مصادر مفتوحة مثل Max Msp التي تسمح للمستخدم ترميز Coding الموسيقى، وتعطي عدداً لا نهائياً من خيارات، عملياً، أعتقد أنه من الممكن توقع ما ستفعله، وستتمكن الشركات التجارية أن تصنفك وتضعك في Genre معين يتوجه لمستهلكين معينين. فلم يعد هناك مكان للعشوائية ضمن هذا النظام الذي يتحكم بخياراتنا الإستهلاكية ويصنع مسبقاً الموسيقى التي يجب أن نسمعها. أي نظام رقمي هو نظام متوقع. على سبيل المثال عندما تريد تسجيل موقع معين في الشبكة، من المفترض أن تستعمل رقماً سرياً عبر Random Number Generator يحوي أرقاماً مدفوعة الثمن، وكلما ضغطت مرة، خرج لك رقم جديد.



لكن الباحثين في هذا الموضوع يؤكدون أن هناك خورازمية بإمكانها حل هذه الأرقام العشوائية. فأنت تخلقها في النهاية من معادلات يمكن فك شيفرتها decrypt. ثم حاول الكثيرون خلق أرقام لا يمكن خرقها، وقد اعتمد أحياناً التعلم من أشياء مادية ويومية مثلاً Lava Lamp التي تتحرك مادتها في الداخل بشكل لا يمكن توقعه وليس هناك من إثبات علمي للقوانين الفيزيائية التي تحكمها. لكن المثير للإهتمام أن بعض الأنظمة العسكرية تعتمد طريقة تسجيل الضجة و White noise "الضوضاء البيضاء" من طريق وضع ميكروفونات في عدد من الشوارع، ينتج عنها تأليفات عشوائية يصار إلى تشفيرها، وتصبح جاهزة للإستعمال والبيع والشراء، وهنا تبدأ بالتقاط طرف خيط للفكرة التي تحدث عنها جاك أتالي، عن الاستعمال السياسي للضجيج في Apparatus أنظمة معينة، وتحوله إلى أداة لإنتاج المنتجات والإشارات الإستهلاكية، كما هو الحال في الموسيقى الإلكترونية اليوم، التي تحولت من أكثر الأدوات ثورية إلى مجرد خادم مطيع للسوق والسياسة.