عن وَهْم اسمه "ليتل إيجبت"

محمد حجيري
الإثنين   2018/10/15
من الصور المنسوبة الى "مصر الصغيرة"
خلال قراءتي لكتاب "سياحة الليل... سياحة النهار" للكاتبة ليسا ون، لاحظت أنها تتحدث عن راقصة اسمها "ليتل إيجبت". وليسا ون التي اعتمدت في بحثها على تجربتين في مصر: تجربة السياح الغربيين الذين يأتون بحثاً عن اكتشاف الأهرامات في النهار، وتجربة السياح العرب في شارع الهرم، حيث يمضون الليل فيه حتى الصباح. بين التجربتين، ولدت الصور النمطية عن مصر، صور نتجت عن علم المصريات، وصور أخرى كانت من "ثمار" الرقص والسهر في الملاهي (فالغربي لا يقل اندفاعاً عن العربي في البحث عن الرقص الشرق والجسد الاكزوتيك والتهويمات والصور العارية والغجر).

وتحاول ون إلقاء الضوء على هاتين التجربتين المتوازيتين، أي التجربة العربية وتلك الغربية، مع مصر، بوصفها طريقة للتأمل والتفكير في الاختلافات والتشابهات. يفترق العرب عن الغربيين في نظرتهم إلى مصر، فما يرونه يتأثر بثقافة كل منهم ودينه ولغته وتاريخه وسياساته. شكلت هذه الصور المتباينة، صورة لمصر عن ذاتها، وهي عبارة عن هويات ذات مستويات متداخلة. فمصر هي أرض الفراعنة وهي الأهرامات والمومياءات، وهي قلب السينما العربية والموسيقى العربية والرقص الشرقي أيضاً. لقد أنجبت قروناً من الحوار العابر للأمم، طبقات من خيالات وصور عن مصر، تكشف الكثير عن الغربيين والعرب، بقدر ما تكشف عن مصر نفسها. والافتتان الغربي بمصر الفرعونية لا يمكن فهمه من دون معرفة الطريقة التي عُرف فيها علم المصريات مع تاريخ الإمبريالية الأوروبية. والصورة النمطية المصرية عن العرب وهم يمضون الليالي في ملاهيها، وجه آخر ولون آخر.


أما "ليتل إيجبت" فهي صورة أو صور أخرى متعددة، غريبة وخيالية. تقول الرواية المتخيلة إن "ليتل ايجبت" كانت محط جاذبية كبيرة في مهرجان شيكاغو العالمي العام 1893، حينما فتنت الجمهور الأميركي وصدمته بحركاتها الراقصة، والتي عدّها الجمهور الأميركي الفيكتوري المتزمت إيحاءات "خلاعة"، مثيرة للاستفزاز في ذلك الوقت، على نحو ما كانت كتابات أوسكار وايلد مثيرة للغضب في بلاده، وهما أتيا في زمن واحد. وسرعان ما أصبحت كليشيهات "ليتل ايجبت" المفترضة والشرقية، بدعة وذات انتشار واسع. وتزامن صعود وَهْم "ليتل ايجبت" مع اهتمام اثنوغرافي قوي بالصور الشرقية، وإصدار مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" العام 1888. وكانت تباع الصورة الترفيهية والتجارية التي تصور العالم الشرقي، ومنها المشهد المذهل للأهرامات القديمة وصور النساء ورقصة الثعبان واللمحات الصوفية ودخان النرجيلة.

درست الباحثة دونا كرلتن أسطورة "ليتل إيجبت"، وأظهرت اللَّبس الذي أحاطها، وقالت: "فوجئت حين علمتُ أن "ليتل إيجبت" وارتباط اسمها بذلك المعرض الشهير، ما هما إلا أسطورة شعبية غالباً ما ردّدها الأميركيون، شأنها في ذلك شأن سائر القصص عنها. على سبيل المثال، لم يُصَب مارك توين بنوبة قلبية عندما رآها، مع العلم أن أحد الأفلام الوثائقية التي وثقت لفرقة "آلهة الحب" قالت إن توين كاد أن يصاب بأزمة قلبية عند مشاهدته الراقصة تتمايل أمامه. ولم يصورها توماس إديسون. ما من دليل معاصر واحد، أو مقال في صحيفة، صور، أو إعلان، أو كتاب تذكارات يعود إلى العام 1893، يثبت أن "ليتل إيجبت" رقصت في المعرض العالمي في شيكاغو. فمن غير المعقول أنها كانت نجمة المعرض، كما أُوحي إلينا، ولا تُنشر لها الصور ويُروّج لعرضها. اللافت أن القصص كافة التي تربطها بذلك المعرض تعود إلى ما بعد هذا الحدث العالمي بسنوات. بناء عليه، فإن "ليتل إيجبت" هي صورة أيقونة، بحسب جان بودريارد، تختصر خيالاً محدداً عن النساء، والرقص والشرق الأوسط والمهرجانات العالمية".

فكر وفن
حين عدتُ إلى أرشيف بعض المجلات القديمة، قرأت مقالاً في مجلة "فكر وفن"، بعنوان "اكتشاف أوروبا للرقص الشرقي"(!) ويفيد بأن الروائي (اميل) زولا أصدر رواية بعنوان "نانا" العام 1880، أورد فيها تعبير "رقص البطن"، وهو التعبير الذي تُرجم في الولايات المتحدة. وفي العام 1889 تُرجم إلى الألمانية بالمعنى نفسه. بينما يطلق عليه بالعربية: الرقص الشرقي. وفي العام 1893 أقيم معرض عالمي في شيكاغو بمناسبة مرور 400 عام على اكتشاف كولومبس لأميركا. وكان من بين ما شهده الجمهور راقصة وفرقتها. وكان يطلق على الراقصة اسم "ليتل ايجبت"، وقدمت الفرقة عروضها في موقع مخصص لشارع صورة الحياة في القاهرة، وكان قد سبق تقديم هذه العرض قبل أربعة أعوام من ذلك التاريخ، في معرض عالمي في باريس ولاقى نجاحاً كبيراً.

في المقابل، قرأت في موقع "معازف" الإلكتروني أن أول تسجيل مرئي لراقصة بطن آتية من الشرق، سجله إديسون العام 1896 لفاطمة جميل أو جميلي، بحسب أشهر الروايات عنها، وكان أول عروضها في معرض شيكاغو العالمي، الذي كان وسيلة استشراقية ذائعة الصيت في القرن التاسع عشر، لتقديم شرق مصطنع داخل أروقة ما. وفاطمة جميلي، بحسب تعريفها، حلبية سورية، مولودة العام 1871، جاءت مصر في بواكير 1890، ووجدت نفسها منغمسة في العالم الواسع للرقص الشرقي. وفي القاهرة، تعرفت إلى سورية أخرى اسمها فريدة مظهر (أو مزار بحسب الأخبار الشائعة)، وكلاهما تعلمت الرقص. فريدة تعرفت إلى رجل يوناني فأحبها وأحبته وتزوجا وحملت اسمه، فصارت "فريدة مزار سبايروبوليس"، وهو من أقنعها بالذهاب إلى العالم الجديد لتقديم شغفها في مسرح.

سافرت الراقصتان، وفي شيكاغو قابلتا فتاة كندية اسمها كاثرين ديفين، أصابها الهوس بالرقص الشرقي، فتعلمته منهما، وغيرت اسمها إلى عائشة وهبي، وكونت الراقصات الثلاث فريقاً اسمه "ليتل ايجبت"، تنقلت عروضه من شيكاغو وجابت أميركا. وهناك مزاعم كثيرة حول اسم راقصة "ليتل ايجبت" وجنسيتها ودورها، في فيلم أديسون المنتشر والصامت والقصير. إذ تقوم الراقصة بحركات سريعة فيما لا نسمع الموسيقى المصاحبة لها، وهي ترتدي زيًا شبيهًا لزي الغوازي في القرن التاسع عشر، بحسب رسم المستشرق إدوارد لين. ويشبه رقصها، رقص الغوازي بشكل كبير، أو رقصة البطن كما أدتها راقصات الموالد في الريف المصري.
وزعمت الكاتبة شذى يحيى، في مجلة "الهلال" المصرية أن "ليتل ايجبت" هي "امرأة حسناء قسماتها عربية، عيناها سوداوان واسعتان وبشرتها بلون الحنطة، ولها شعر غجري داكن، تتلوى نصف عارية مستعرضة جسدها الملفوف رغم ميله للاكتناز، وتهز ردفيها الفخيمين بحركات أفعوانية خليعة تثير الشهوات وتدغدغ الغرائز أثناء تمايلها الماجن على إيقاع الآلات الشرقية التي تعزف لحنا صاخباً". وتقول الكاتبة المندفعة أن هذه هي الصورة التي ستقفز إلى ذهن أي أميركي بمجرد أن يُذكر أمامه اسم "ليتل إيجبت"، صورة رسختها وكرست لها الكثير من الأعمال الأدبية والمسرحية والغنائية والأفلام الهوليوودية منذ أكثر من مئة عام، وارتبط بها كثير من المصطلحات التي حُملت هي الأخرى إيحاءات ومعاني بذيئة، مثل الهوتشي كوتشي، والشيك أند شيمي، أو الهز والتمايل، وكذلك المصطلح الأشهر "بيلي دانس"، أي رقص البطن أو المعدة وهو الاسم الإنكليزي الذي اصطلح عليه لتعريف الرقص الشرقي. والصورة التي رسمتها الكاتبة المصرية، متوافرة باللغة الأجنبية في الانترنت. وإذا كان الوالي محمد علي باشا، أبعد الغوازي إلى إسنا (في صعيد مصر) لأنهن يشوهن صورة مصر وسمعتها، وإذا كان الطهطاوي -وهو كاتب محمد علي ومنظّره الإصلاحي- يربط الرقص المصري بـ"العهر" واللذة الحسية والشخلعة، فشذى يحيى تنسج إطاراً لـ"ليتل ايجبت" وتربطه بنهايات القرن التاسع عشر، وتحديداً العام 1891، حينما كان الخديوي توفيق، حاكم مصر، دائم السعي إلى إثبات أن مكانة بلاده التي تعرضت للاحتلال البريطاني العام 1882، لم يؤثر فيها الاستعمار. لذلك كان حريصاً على انتهاز الفرص للمشاركة في المحافل الدولية، لا سيما المحفل الأهم في تلك الفترة، وهو المعرض العالمي للفنون والصناعات الذي كان يقام مرة كل خمس سنوات في مدينة غربية، ويعد فرصة لتظهر الأمم عظَمتها. وكانت حاشية الخديوي تتحايل بالزعم أن تمثيل مصر في المعرض يأتي من قبل مواطنين مصريين ومهتمين بمصر من جنسيات أخرى، للحصول على جناح مستقل، فيتم تعيين مدير للعرض، وتقوم الحكومة المصرية بكافة التسهيلات والمصاريف في الخفاء.

وقد دفع نجاح الجناح المصري في معرض باريس 1889، خصوصاً الجزء الذي سمي "شوارع القاهرة"، الخديوي، إلى أن يطلب من معاونيه الإعداد المبكر للدورة التالية في شيكاغو، والتي ستقام العام 1893، والاهتمام بصفة خاصة بالرقص الشرقي الذي أبهر زوار باريس وجعل العرض المصري أكثر العروض شعبية في المعرض. هكذا، أسندت مهمة تنظيم "شوارع القاهرة" إلى جورج بنجالوس، وهو مصرفي تركي من أصول يونانية، وبدعم من الحكومة المصرية، للخروج بأفضل عرض مبهر. واستمرت الحكومة على حماستها هذه، حتى بعد وفاة الخديوي توفيق، وتولي ابنه عباس حلمي، بل إن الخديوي الشاب كان أكثر حماسة من أبيه الراحل. ورغم هذا، فإن الأمر لم يكن سهلاً، خصوصاً في ما يتعلق بالراقصات. فشيكاغو لم تكن باريس، إضافة إلى أن طول الرحلة إلى أرض مجهولة والغياب لمدة طويلة عن القاهرة، جعلا من مهمة بنجالوس في توظيف الراقصات، سواء الشهيرات أو المغمورات، مهمة شبه مستحيلة. فلجأ إلى استعمال الحيلة، كما كتب في مقال نشر في مجلة "كوزموبوليتان" الأميركية في أحد أعداد العام 1897، وعنوانه "قصة شوارع القاهرة". ويحكي بنجالوس في المقال أنه أعلن، العام 1891، عن مسابقة للراقصات، ليشاركن في معرض شيكاغو 1893، ولم تتقدم أي راقصة. فنشر شائعة في شارعي عماد الدين ومحمد علي، وفي أحياء الأزبكية وروض الفرج، مفادها أن فريدة مظهر القادمة من حلب، والتي حققت في تلك الفترة شهرة مدوية في دنيا "العوالم" في زمن قياسي، قد تقدمت للمسابقة ولم تُقبل لأنها ليست على المستوى المطلوب. فدفع هذا الكثير من الراقصات الشابات، اللواتي كن يغرن من صعود فريدة، للتقدم إلى المسابقة.

ومن دون تقديم أي مراجع ومصادر، تقول كاتبة مجلة "الهلال"، إن فريدة تقدمت للمسابقة وقُبلت، لكن إحساسها بالنجومية المفاجئة التي أحاطت بها وحبها للمغامرة، دفعاها إلى أن توافق فعلاً على السفر لشيكاغو، وهكذا تكوَّن لدى بنجالوس فريق من الراقصات: "فاطمة الحوري، فاطمة الحصرية، هانم، أمينة إبراهيم، سعيدة محمد، صديقة، نبوية، فهيمة، زكية، ماريتا، حسنية"، وبطلة عرضه فريدة مظهر التي أفردت لها رقصة خاصة بعنوان "فاتيما الجزائرية قادمة إليكم من المغرب". وزار الجناح المصري أكثر من مليوني فرد، وبعد انتهاء المعرض أكمل بنجالوس مع راقصاته، عروضهن في جولات مع المعرض العالمي في أنحاء أميركا، فتوجهوا غرباً إلى سان فرانسيسكو حتى العام 1895، ثم شرقاً إلى نيويورك في خريف العام نفسه، وانفصلت عنهم فريدة في نيويورك بعدما تلقت عرضاً للرقص في كازينو كبير هناك، لكن هذا لم يستمر طويلاً حيث ثار بعض المحافظين، وأبلغوا الشرطة التي هاجمت الملهى فاضطرت فريدة لمغادرة نيويورك عائدة إلى شيكاغو، خصوصاً بعد رفضها عرضاً من متحف نيويورك لتؤدي "رقصة النحلة"، فتعاقد المتحف مع الراقصة الكندية كاثرين ديفين، وأطلقت على نفسها اسم "الهندية الصغيرة" لأداء الرقصة، وغيرت اسمها إلى "عائشة وهبي" ليعطي إحساساً عربياً شرقياً، ورقصت مدعية أنها هي نفسها "ليتل إيجبت".

حتى ذلك التاريخ لم تحتل "ليتل ايجبت" صفحات الصحف، ولم يكن لها أثر كبير في الثقافة والحياة الشعبية الأميركية، رغم شهرتها النسبية حتى شهر ديسمبر/كانون الأول 1896، عندما احتل اسم "ليتل ايجبت" الصفحة الرابعة في كل صحف أميركا بعد حفلة عزوبية أقامها اثنان من أثرياء نيويورك، هما الأخوان بارنوم سيلي، واستعانا بخدمات كاثرين ديفين، منتحلة لقب "ليتل ايجبت"، لتؤدي دوراً خليعاً في عرض مقتبس من رواية للفرنسي جورج دو موريير صدرت العام 1890. واستغلت ديفين تلك الفضيحة التي استمرت شهوراً، لجني المزيد من الشهرة والمال، فقامت ببطولة مسرحية بعنوان "مصر الصغيرة.. حفلة عشاء آل سيللي"، عرضت في مسرح الأولمبيا في برودواي، وحصلت على الحقوق المادية عن أغنية ألفها جيمس ثورنتون بعنوان "شوارع القاهرة"، كما واصلت الرقص الخليع في أماكن عديدة، فتشجعت نساء أخريات على انتحال اسم "مصر الصغيرة"، مثل مَن عرفت باسم فاطمة دي جميل، وهمو ماحدا أيضاً بفريدة مظهر ـ التي كانت قد استقرت في شيكاغو وتزوجت من صاحب مطعم يوناني يدعى اندرياس سبيروبولس ـ أن تقيم دعوى قضائية ضدها، وتنشر تكذيبات في الصحف. لكن ضجة ديفين استمرت هي المتصدرة، خصوصاً بعدما رفعت قضية على الأخوين سيللي واتهمتهما بأنهما لم يعطياها حقوقها المالية، كما تسببا لها في ضرر معنوي. وفي العام 1908، وُجدت كاثرين ديفين، مختنقة بالغاز، تاركة وراءها ثروة جمعتها من الرقص الخليع قُدرت بمئتي ألف دولار. ولم يظهر اسم فريدة مظهر سبيروبولس مرة أخرى، إلا في العام 1936، في أوراق دعوى قضائية رفعتها ضد شركة "مترو غولدن ماير"، منتجة فيلم "زيجفيلد العظيم"، والذي ظهرت فيه شخصية "مصر الصغيرة" بشكل لم تره فريدة يليق بها. وكتب في أوراق الدعوى أن الشركة لم تحصل على تصريح منها بصفتها "مصر الصغيرة الأصلية" من معرض 1893، وأنها لم ترتد يوماً الملابس التي ارتدتها الممثلة التي قامت بالدور ولا قامت بالحركات التي قامت بها، لكن الدعوى لم تكتمل نظراً لوفاة فريدة العام 1937. وبوفاتها فُتح الباب على مصراعيه لترسيخ الصورة النمطية عن الرقص الشرقي في الذهن الجمعي الأميركي.