هبة الأنصاري تنتقم من كتاب الرياضيات

حسن الساحلي
السبت   2018/01/06
استوحت التجهيز الفني من زيارتها إلى كفرنبل
عندما عرضت هبة الأنصاري تجهيزها الفني الأول والأكثر شهرة "برزخ"، على واجهة أحد منازل مدينة كفرنبل المدمرة، أثارت مخاوف المارين في السوق من أن ينتقم النظام من المدينة بسببه، رغم أن كفرنبل كانت معروفة منذ بداية الثورة بلافتاتها التي لا بدّ قد وصل صداها إلى بشار الأسد نفسه.

ما قدمته الأنصاري يومها كان فساتين بيضاء بأقدام ماعز، تتدلى من ما تبقى من المنزل المهدم، وتبدو لمن لا يعرف بتركيبها، كأشباح لأطفال هائمة بعد عودتها من الموت. فما أثار رعب الجيران والمارة يومها، لم يكن قوة الرسالة التي يريد العمل الفني إيصالها، بل قوة تدخله في المجال المديني العام، أو المجال المتحول من الخاص إلى العام بفعل القصف والتدمير.



فمن المعروف أن أحد تسميات "التجهيز الفني" الأقل تداولاً هي "المحيط" أو "البيئة"، لأن تدخله يغير في طبيعة البيئة المكانية نفسها، فما بالك أن تضع تجهيزاً فنياً "مخيفاً" في بيئة خائفة أصلاً من ما تتعرض له من عقاب يومي ينزل عليها من السماء.

بعد خروج الأنصاري من سوريا نهائياً (كانت قد خرجت للمرة الأولى في العام 2012 ثم عادت مرة واحدة فقط إلى كفرنبل في ربيع 2014) استمرت في عملها المرتبط بالوضع السوري كما أغلبية الفنانين السوريين، وانتقلت من صيغة "التدخل في الدمار" السابقة، إلى صيغة جديدة يصير فيها الدمار متدخلاً في سياقات جديدة، وما يظهر بشكل واضح في تجهيزها الفني الجديد الذي يحمل اسم"كتاب الرياضيات" (عرض في مركز "أشكال ألوان" ضمن فعاليات "مينا" التي تنظمها مؤسسة إتجاهات).

استوحت هبة التجهيز الفني من زيارتها إلى كفرنبل، اذ وجدت في أحد مبانيها المدمرة "بصاروخ حراري أطلقته طائرة ميغ 21 تابعة للجيش السوري في 1 كانون الأول 2013"، كتاب رياضيات (الصف السادس طبعة سنة: 2013 – 2014). عرفت الأنصاري لاحقاً من الإسم المزخرف برسومات طفولية على ملصقه، أنه لفتاة قتلت في القصف اسمها نورا بزكادي.



للوهلة الأولى ستظن أن تلك الزيارة إلى كفرنبل كانت أشبه برحلة تبضع للمواضيع الفنية، ستكفي الفنانة لسنوات إلى الأمام، لكن العمل لا يلبث أن يثبت العكس، بطبقاته ومستوياته المتعددة. فكتاب الرياضيات المشوه بسبب القصف الموضوع في مكعب زجاجي، يعمل كمحرك للتجهيز الفني. يقسم الأخير الفضاء داخل مركز "أشكال ألوان" إلى قسمين، القسم الأول "منطقي" عبارة عن مجسمات هندسية من الإسمنت تحاكي "العضادة"، أي الشكل الهندسي لبناء الغرفة، وقد وضعت تلك المجسمات فوق قطع إسفنجية.

تقول الأنصاري أن "هبوط الإسمنت على سطح الإسفنج يحدث تغيراً في شكل الإسفنج، تحت ضغط الوزن والكتلة"، وتشبّه هذا الضغط بذلك الذي يشكله الإنفجار فوق المباني. قوة الأجسام الإسمنتية وقسوتها وضعف الأجسام الإسفنجية، تشكل "المنطق" المستمد من كتاب الرياضيات ومعادلاته، وهو منطق يشكل الجسد المتين الذي وقفت عليه نورا بزكادي وانطلقت منه لفهم العالم.

أما "اللا منطق" أو "التخريب" وفق تسمية الأنصاري، فهو كتاب رياضيات جديد "طبعة سنة: 2016 – 2017"، يتكون من ملاعق وصحون وسكاكين قُطّعت و"رميت في معادلات حسابية لا منطقية". أغراض المطبخ الحديدية هي أشكال هندسية أيضاً لا تُدرّس في الطبعة الأولى، تراها الفنانة أقرب إليها من الأرقام والأشكال الهندسية الموجودة في كتاب الرياضيات: "شعرت حين كنت أقطع السكاكين أن هذا العالم هش مثل الحديد، ولين مثل الذاكرة، نستطيع عجنه وتكوينة كما نريد".

تحاول الأنصاري من خلال القسم الثاني من تجهيزها، بناء منطقها الخاص الأقرب إلى الواقع المعاش، فالمجسمات الإسمنتية "الرياضية" التي عاشت داخها فتاة كفرنبل، والتي كان يفترض أن تكون مسكناً قوياً وآمناً، دمرت خلال ثوان وقد تحولت مع آلاف البيوت الأخرى في سوريا إلى "أشكال هندسية غير منتظمة وأحياناً إلى حبات رماد في الهواء وعلى الأرض"، وقد بقيت المجسمات الإسفنجية داخلها كما هي رغم ضعفها المنطقي. اللامنطق هو الهشاشة والمنطق الذي يدرس في كتاب الرياضيات، تحول إلى جثة هامدة.

لا ينفصل التجهيز الفني في أحد مستوياته عن ما تصفه الفنانة كرهاً لكتاب الرياضيات: "لم تكن علاقتي جيدة مع الأرقام من قبل. وقد شعرت بالخوف من هذا الكتاب الممدد في بيتي في ميونخ كالجثة". طبعاً الكره المتفاقم للرياضيات مرتبط في أحد أوجهه، بفشل السرديات السورية المعاصرة، وعدم قدرتها على تقديم تفسير للواقع، والمفارقة أن عدد كبيراً من نخب الثورة السورية قد درسوا الطب أو الهندسة، وقد قاموا ببناء واقع خيالي تم تدميره على يد آلة النظام القمعية.



فالأنصاري في النهاية تنتمي إلى سردية بديلة عن العالم، متعارضة مع الفهم الرياضي ومناقضة له: "كما يتناقض الإسمنت والإسفنج". وتجهيزها الفني بالإضافة إلى كونه تخريب للفهم الرياضي لهذا العالم وانتقام منه، يحاول أيضاً بناء منطق فني مختلف، خاصة أنها ربطت في منشورها عن العمل، الدمار السوري بصرياً بالفترة السابقة على الحرب "ولدتُ في ليبيا وعشتُ فيها حتى 12 من عمري. كنت أرى سوريا في كوابيسي مكاناً رمادياً وأزرق، فيه أبنية تنهار، كأنها مدينة من عجين". والصورة التي تصف فيها سوريا قبل الحرب، استعملت كثيراً لوصف عهد حافظ الأسد "الرمادي والمغبر" (خاصة في التسعينات وأواخر الثمانينات)، ما يمكن أن يكون أيضاً نقطة بداية لسرد من نوع آخر.