الولع الثقافي بالحرب

روجيه عوطة
الثلاثاء   2018/01/23
السينما البيضاوية في وسط بيروت، لوحة لأيمن بعلبكي
تتعدد الإجابات على الإستفهام عن تناول الحرب اللبنانية المرة تلو المرة في الإنتاج الثقافي السائد في لبنان. فالبعض يعوزه إلى كون الحرب لا تزال موضوعاً ملحاً، بحيث أن آثارها باقية، واقتفاءها غائب، وبالتالي، هذا دافع إلى الإطناب في الكلام عنها. لدعم هذا السبب، لا بد من إرفاده بأدبيات استمرار الحرب، ومطابقتها مع السلم، وسكوت المتحاربين بعد توقفها، فضلاً عن المضي في الحديث عن الذاكرة والمحاكمة المفقودتين، وبينهما، إعلان مواصلة العيش على إثر صدمتها. والبعض الآخر، قد يقفز فوق إلحاح هذه الحرب، ويذهب مباشرةً إلى ربط تناولها بأجندات ممولي ذلك الإنتاج الثقافي، وتدخلهم فيه، إذ يقيدون التطرق إليها بتصورهم عنها، جاعلين منها كليشيه خالص. ولكن، تفسير البعض الأول والثاني غالباً ما يصرف نظره عن كون تناول الحرب إلى درجة تحوله إلى نشوب كاريكاتوري بها يتعلق بفاعله الرسمي أيضاً، أي المنتج الثقافي على أنواعه.

فهذا الفاعل هو من صناعة نظام، قد يصح وصفه، ومن دون الإنقطاع الآن إلى شرحه، بأنه ضريحي، لا شيء يقع فيه على الرغم من كل جلبته، وبالتالي، وكلما تمسك ذلك الفاعل به، يزداد خضوعاً له، وعقب هذا الخضوع هو التغير من فاعل إلى عاطل عن الإحداث، سمته الأساس هي الإحباط، التي، ولما تتفاقم، تنقلب إلى إبطالٍ، أي بث العدمية في كل النواحي، والحكم على كل حركة فيها بالسدى. فالمهم لذلك الفاعل أن يظل في نظامه الضريحي، أن يسوغه من خلال إنتاجه، الذي يفيد دوماً بأن لا شيء يحدث وسيحدث، ليس في رجائه، بل في عموم البلاد، وفي حال حدث، من الضروري الإسراع في القبض عليه. الفاعل إياه، الذي ظهر بتخطي المحرمات، معتقداً أن هذا هو انشغاله، يخبو اليوم بإعادة تدويرها، والفاعل إياه، الذي، وحين يجلس للبحث في إنتاجه، يعلم أن إبانته السباب والجنس والعنف لا يُحدِّث، ذلك، حتى لو أنه فتحت عيوناً كثيرة أمامه، وفي النتيجة، لا مناص له من خيار بعينه: اختزال كل مواضيع هذه الإبانة بموضوع ضخم، يحويها، وعندها، يمد بيانها بالحدوث، وهذا الموضوع ليس سوى الحرب. فبعد حوالي ثلاث عقود على انتهائها، الحرب، في تناولها الثقافي مراراً وتكراراً، بمثابة نقالة الحدوث للذي لا يُحدِّث، وبعبارة أخرى، يختارها فاعل النظام الضريحي لأنه ضامر الإحداث.

لكي يقدم على ذلك، بمقدوره تحويل الحرب إلى محرّم من المحرمات، التي اعتاد تجاوزها، فالدولة تراقب تناولها، وبهذا يدرجها في انشغاله، وفي مقدوره أن يجعلها حاضرة على إعتقاد بأنها لم تنتهِ، وبهذا، يدرجها في وقته، وبمقدوره أن يلتفت إلى عمرانها، الذي أضحى معرض، أو الذي لم يصير على هذه الحالة، وبهذا يدرجها في مكانه. محصلة إدراجها أنه يجعلها راهنة، وهذا، لا يجعلها موضوعاً للمقاربة، بل للإعلام عنها. فمقاربة أمر ما مغايرة للإعلام عنه، المقاربة تقتضي أولياً العمل على الإقتراب منه على أساس مسافات تبدي جوانب حقيقته، أما، الإعلام فيؤدي إلى تركيبه على محمل مختلف، لا يتيح الدنو منه، بل إجراءات أخرى. فالإعلام عن الحرب لا يعني الاكتفاء بطرح مشكلاتها الشائعة فقط، ولكن، وقبل ذلك، تغييرها إلى موضوع جذب، ما يستلزم الإشارة إلى أنها، في الخلاصة، نهاية مثيرة، وبالإنطلاق من هنا، يجري رفعها جمالياً كمكمن للخطر ومكمن للهشاشة على حد سواء. تحث على تلافيها من خلال الحفاظ عليها، وعلى تجنبها من خلال ملازمتها، فالإعلام عن انصرامها ينطوي على تمني إقبالها. الإنتاج الثقافي الذي يعلم عن الحرب، زاعماً تناولها، هو الذي فعلياً يريدها، يريد عودتها، هذا ما تسجله كتابة ذلك الإنتاج في السياسة أيضاً.

لقد وجد الفاعل في النظام الضريحي دوراً للحرب، وهو أن تكون هذا الوهم الذي يذيعه بواسطة تناوله، أي الإعلام عنه، على أساس أنه يُحدِّث، إلا أن الوهم لا يحدِّث، يأخذ مكان الرمزيات المنهارة، ويمنع من بناء غيرها. يختار الفاعل هذا الوهم ليحدث ما لا يحدث، ليبدع في ما لا يبدع، وفي الكثير من الأحيان، يصل إلى سبيله المغلق، الذي ينتهي بادعاء تخطي تناول الحرب عبر الكشف عن كونه كليشيه، وفي الوقت نفسه، القول أنها ليست في المتناول. هذا الادعاء وقوله هو فصل من فصول الإعلام عنها، وفصل من فصول ترجي وقوعها. لماذا يجري تناول الحرب في الإنتاج الثقافي السائد؟ لأن الفاعل يعتبرها نقالة الإحداث الذي لا يتمكن منه، وعندما يشير إلى كليشيهاتها عند تناوله لها، فلأنه يريدها كما هي: إنتاجه الأخير.