مئوية عبد الناصر: "مصر الناعمة" تواري إخفاقاتها

شريف الشافعي
الجمعة   2018/01/19
عبد الناصر في زمن الاستثمار الثقافي
"مئة عام على ميلاد الزعيم"، عنوان عريض اندرجت تحته احتفاليات ضخمة، متشعبة، ثقافية وإعلامية، على مدار يناير الجاري، بالتزامن مع مرور مئة عام على ميلاد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (15 يناير 1918-28 سبتمبر 1970). 

فهل اقتصر "الاستثمار الثقافي" للحدث على الاحتفاء "الطبيعي" بالرموز، وإلقاء الضوء على مرحلة لها ما لها، وعليها ما عليها، وكشف الجديد من الأسرار والوثائق والمستندات، التي تتطلب المراجعة والتحليل، ونشر الصور النادرة، وما إلى ذلك من الجهود التي تليق بقدر الرجل، من أجل الاستعانة على فهم الحاضر، وقراءة المستقبل قراءة صحيحة؟

أقيمت بالفعل عشرات الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، بمعرفة قطاعات وهيئات وزارة الثقافة المختلفة، أبرزها احتفالية "الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية"، بحضور أسرة عبد الناصر، وعدد من المفكرين والباحثين والإعلاميين، ومشاركة دور نشر رسمية وخاصة، ومؤسسات صحافية.

صدرت كذلك، خلال يناير الجاري، مجموعة كبيرة من الكتب والدراسات والأبحاث القيّمة، حول التجربة الناصرية بملابساتها وتشابكاتها الثرية، وأفردت صحف ومجلات أعدادًا كاملة، وملفات، من أجل "إحياء" مئوية عبد الناصر.

ليس من شك في أن أحد أدوار الثقافة والإعلام، بل أحد واجبات القوة الناعمة عمومًا، الوقوف على التجارب المفصلية في التاريخ، واستدعاء أوراقها من رفوف الذاكرة، للفرز في المختبر، والقراءة الدقيقة، الهادئة، المتأملة، المتعمقة، تحت المجهر.

تحت العنوان العريض "مئوية ناصر"، لم يكن الخط الأساس لتحرك قوة مصر الناعمة مؤتمريًّا بقدر ما جاء كرنفاليًّا، ولم يكن تحليليًّا بقدر ما بدا دعائيًّا شعاريًّا. ولم يأتِ استدعاء الماضي من أجل فهم اليوم وقراءة الغد بقدر ما أريد به نفي الحاضر، والإيحاء بأن الأحياء في يومنا هذا إنما يعيشون في عصر منصرم، أو أن الزعامة المفقودة هي المظلة التي تقيهم الآن ويلات العهد الراهن ومشكلاته المتجذرة المتفاقمة.

"ناصر، انتهى عمره، واستمر مجده"، عنوان عدد خاص من أسبوعية "أخبار الأدب" (14 من يناير 2018)، ربما يقرب إلى الأذهان ما رمت إليه قوة مصر الناعمة من آليات احتفالها بناصر، فكل ما صدّرته الندوات والمحاضرات التي أقيمت، والكتب والمطبوعات الخاصة التي نُشرت، يوازن ويوازي بين أمرين: الأول: المرحلة الناصرية بوصفها مجدًا (هكذا في المطلق)، والثاني: استمرار هذا المجد اللامحدود حتى يومنا هذا، وخلوده في ما بعد، على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.

هذان المساران اللذان سلكتهما القوة الناعمة، بهدف تغييب انكسارات وأوجاع راهنة وتزيين انتصارات وهمية أو زائلة بوصفها إنجازات آنية، لقيا هوى دفينًا في قلب القوى الناعمة ذاتها، فلا بأس من التغني والتهليل وإقامة الأفراح والليالي الملاح، بدلًا من مكاشفة الذات بصدق من المؤكد أنه سيقود إلى صمت مرير.

إن قوة مصر الناعمة، بحضورها الرسمي المتهالك، تعي جيدًا أنها صارت منفية خارج الزمن، مفتقدة منذ وقت طويل بوصلة التحرك، وعناصر التأثير، ليس فقط على الأصعدة العربية والدولية، بل على الصعيد المحلي، ومن ثم فإنها تجد ضالتها فيما هو ماضوي بوصفه فردوسًا غير مفقود، وهكذا يمكن استحضار جنة الله، أو تجربة الزعيم المفدى، على الأرض، وهكذا يمكن الحجب والتمرير وفق سيناريو التدليس والالتباس.

تطمح القوة الناعمة إلى تغطية إخفاقاتها المتتالية، وتراجع دورها وتأثيرها في المعارك الحقيقية مثل التنوير والمواطنة وتجديد الخطاب الديني ومواجهة العنف الفكري والسلوكي وغيرها، من خلال ذلك الاستثمار الانتهازي لأحداث من قبيل مئوية جمال عبد الناصر، واستخدامها في المحصلة كـ"ورقة توت" لا أكثر، لمواراة ما لا يمكن مواراته من عورات فادحة فاضحة. 
ما هو "طبيعي" في احتفاليات القوة الناعمة بمئوية جمال عبد الناصر، يمكن التمثيل له بتسلم الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية "وثائق الزعيم جمال عبد الناصر التي تمت رقمنتها"، ومنها أرشيف الأفلام المصورة والخطب المكتوبة والمسموعة واليوميات، وصدور مجلد تذكاري عن دار "الهلال" بعنوان "100 عام على ميلاد الزعيم" يضم وثائق وأسرارًا وصورًا نادرة، وإصدار "مختارات من الوثائق والدوريات" في موسوعة مفيدة عن دار الكتب، وإثراء متحف عبد الناصر بتماثيل ومقتنيات.

من الطبيعي كذلك اضطلاع مفكرين ومؤرخين وباحثين بالحديث عن التجربة الناصرية من منطلقات علمية موضوعية في ندوات ومحاضرات، وإعادة نشر وإتاحة أوراق نادرة تحوي قرارات مجلس قيادة الثورة ومصادرة أملاك الملك فاروق وقبول استقالة الرئيس الأسبق محمد نجيب، وما نحو ذلك، فضلًا عن عرض الصحف القديمة التي تناولت بعض الأحداث المهمة في عهد ناصر، كتأميم قناة السويس، وإعلان الوحدة العربية السورية، وفرض حالة الطوارئ عقب هزيمة 1967.

"الناصرية كمجد مستمر لا يزول"، هو المنحى غير الطبيعي الذي سلكته القوة الناعمة متجاوزة المتوقع والمألوف في مثل هذه الاحتفاليات والندوات، ويمكن الاستشهاد عليه بعشرات القرائن والإشارات التي جرت خلال يناير 2018.

الطريقة التي تم تقديم احتفالية "دار الكتب" بها جاءت دعائية، تصدّر الشكل قبل المضمون، فالحدث الكرنفالي في مقر الدار بـ"الفسطاط" (قاهرة عمرو بن العاص)، والوثائق والخطب والرسائل والصور والمقتنيات تهديها السيدة هدى عبد الناصر لدار الكتب في مؤتمر صحفي أمام الكاميرات والفضائيات بحضور شخصيات سياسية ودبلوماسية ومثقفين، ومن هذه الكنوز "ست حقائب من نياشين الذهب والألماس".

دفة حديث الدكتور أحمد الشوكي رئيس مجلس إدارة دار الكتب تميل في الاحتفالية إلى الفكرة ذاتها: "خلود الناصرية، وتزيين الواقع"، فالناصرية هي الملائمة لبلوغ النور ومحاربة الأفكار الفاسدة ومواجهة ضياع الهوية الثقافية والانتماء الوطني.

هدى عبد الناصر أيضًا، في الاحتفالية نفسها، تدلي بدلوها في الإطار ذاته: "أحمد الله أنني عشت حتى أشهد ثورة 30 يونيو 2013 وعودة روح عبد الناصر المستمرة حتى الآن". ولم تنس أيضًا الإشارة إلى أن ما يتبقى من ميراث عبد الناصر حتى اليوم "هو إحساس الفرد بكرامته وقيمته في المجتمع".

الإصدار التذكاري لدار "الهلال" على ما يضمه من وثائق وصور ومقالات مثمرة، يتصدره مقال رئيس التحرير عن التشابه، بل التطابق، بين العهد الناصري والمرحلة التي تعيشها مصر حاليًا، من حيث الارتباط بالناس، والانحياز للإرادة الشعبية، ولعل ذلك التصدير هو المبرر الأول لإصدار الكتاب.

"المختارات من الوثائق والدوريات"، التي أصدرتها دار الكتب والوثائق، على ما فيها أيضًا من قرارات ورسائل وأوراق تاريخية مهمة، يتصدرها مقال أحمد الشوكي رئيس مجلس إدارة دار الكتب، وفيه يبلور الفكرة ذاتها، أن منطقتنا بحاجة إلى المنهج الناصري للعون على دحض الأفكار الهدامة. 

ويأتي تصدير العدد الخاص الذي أصدرته أسبوعية "أخبار الأدب" في 14 من يناير، ليقول صراحة: "الواقع يثبت كل يوم أن عبد الناصر فكرة لن تنضب أبدًا، تلهم الأجيال المتعاقبة في شتى مناحي الحياة".

احتفاليات مئوية عبد الناصر، استدعت الماضي بوصفه سماء لا يمكن تجاوزها، وفي الوقت ذاته سعت إلى الإيهام بأن أرضنا الموطوءة حاليًا هي تلك السماء المسروقة من كون بعيد.