شيطان الشويفات

روجيه عوطة
الأربعاء   2018/01/17
شيطان التواصل الاجتماعي
منذ أيام، تناقل عدد من سكان الشويفات ومواطنيهم على العموم، رسالة عبر تطبيق "واتسآب" تفيد بظهور شيطان في سهل منطقتهم. وقد جاءت في هذه الرسالة صورة لهذا الشيطان، ومعها تسجيل، يتكلم صاحب الصوت في أثنائه عن خطورة الشيطان إياه، بحيث أنه عمد إلى أكل أربعة أشخاص، محذراً من فتح أبواب المنازل لأي قارع مجهول لها، لأنه قد يكونه، فيداهم، وينقض، ويلتهم، ومبلغاً عن مضي القوى الأمنية والعسكرية إلى التحري عنه، والقبض عليه.

من الممكن إضافة هذه الرسالة إلى باقي شائعات الإخافة، لكن تأليفها يستدعي التوقف عندها. ذلك أنها استحضار لخرافة مدينية، راجت في كنتاكي الأميركية خلال سبعينات القرن المنصرم، وقد استوت سرديتها على إقدام عالِم من العلماء على اختبار بيولوجي، أدى إلى ولادة رجل بهيئة حيوان الماعز، كما أن تدبيجها المحلي اقتضى من مصدرها، عدا عن تعيينه موقعها الجغرافي في سهل الشويفات، تحديد فعل موضوعها، أي المخلوق ذاته، بالأكل، والتأكيد على ملاحقة الدولة له. على أن تدبيج الرسالة يطمس استحضار الخرافة، مهلكاً مضمونها الأساس، الذي يتعلق بالتجربة العلمية، ويكتفي بنتيجتها، حيث ينقلب الرجل الماعز إلى شيطانٍ، قبل إدخاله إلى موطن آخر له، وهذا، من ناحية سهله.

طبعاً، مرد الطمس هنا أن العِلم في الموطن المستجد على المخلوق، هو مجال غائب، وبالتالي لا وطأة له يستمدها من عالِم يجرّب في مختبره، ويهجس بالتأكيد على أن مزاولته قادرة على خلقٍ يتحدى الطبيعة وتكوينها الإلهي. فيأتي الرجل الماعز من مكانٍ معدوم، ولكي يستحصل على ظهوره وخبره، لا يجد مناصاً من الإتصال بسلطة الدين بدلاً من سلطة العلم، وعندها، يتحول إلى شيطان. بهذا الإتصال، يبلغ الشيطان بيانه، لكنه لا يكتفي به، فيتصل كي يحل في موطنه، وهذا الإتصال يسير و"سهل"، يمكنه، وبعد طمس سياقه العلمي، أن يحظى بسياق ديني، وبعد إهلاكه كمخلوق يخل بالطبيعة، أن يأتي مباشرةً منها، وومن دون أن ينشب فيها.

أول التوطين للمخلوق كنتاكي في محله اللبناني، يتمثل في إدراجه في سياق ديني بلا إذاعته، وبعثه من الطبيعة بلا ذكرها. أما ثاني توطينه، بعدما رفده الإدراج بالبيان، فهو مضاعفة بيانه نفسه عبر الإشارة إلى فعل إخطاره: أكل "أربعة أشخاص". والأكل، في هذا المطاف، لا يدل على عنف الشيطان الذي يطيح بالمأكولين، بقدر ما يدل على أنه يُطبق عليهم، ويجتاح نفوسهم، إذ لا يوسوس فيهم، ولا يمسهم، بل يغلق عليهم، ويبلعهم. ولما كان عدد هؤلاء أربعة، فهم، بحسب رمزية الأرقام، علامة على إنتظام تعاضدهم، وثباته. وعلى هذا النحو، حين يأكلهم الشيطان، يتناول انتظامهم وثباتهم، وينتج التزعزع والإضطراب بينهم، وبعبارة أخرى: يُسقط النظام المقونن للعلاقات، يُسقطه بأكله، بإلغائه والإحتفاظ به في جوفه.

يدخل الشيطان إلى موطنه اللبناني، فيستدخل نظامه إلى معدته، وعندها، يتواصل توطينه. إذ أن الرسالة تحذر متلقيها منه، فتلح عليهم أن يتنبهوا وأن يخافوا. هم قاطنو النظام المأكول، وتالياً، قاطنو معدة الشيطان. ولهذا، لا أحد منهم يتوجب عليه أن يفتح باب منزله لأحد غيره، لأنه قد يكون الخطر المداهم له. على كل واحد من هؤلاء أن يغلق بابه على نفسه، أن يطبق عليها، وفي هذا الفعل تناقض: فالخائف من الشيطان يحذو حذوه، بحيث يقفل على نفسه، ويأكلها. وهكذا، ما على قاطني معدة الشيطان، ولكي يتقوه، سوى أن يفزعوا، أن يقتربوا من التغير إليه عبر الإطباق والإغلاق، أن يكونوه، أن يكونوا شياطين.

بهذا، بجعل الخائفين منه على شاكلة الشيطان، يتواصل توطينه أيضاً. وحينها، تجري طمأنتهم إلى أن الدولة تلاحقه، وفي المحصلة، تلاحقهم. فالرسالة تهددهم: خافوا من الشيطان، أقفلوا أبوابكم، التهموا أنفسكم، تحولوا إلى شياطين، ففي هذه اللحظة بالذات، ستنطلق الدولة في مطاردته، والسعي إلى الإطاحة به، وفي الوقت ذاته، الإطاحة بكم. من هو الشيطان؟ من هم هؤلاء؟ لماذا يجري تهديدهم؟

يسجل التلفزيون الإجابات على كل هذه الإستفهامات. إذ إنه يسارع، وبطريقة كاريكاتورية، إلى دحض بيان الشيطان، مشدداً على أمر معين، وهو توعية الناس من استخدام تطبيق "واتسآب"، فيقول لهم: لا شيطان في جواركم، لكن كونوا حذرين مما يسمى "السوشال ميديا". وعليه، يفصح التلفزيون عن كون الشيطان أثراً من آثار ذلك التطبيق، وذلك الإعلام. وويقول أن المهددين به، والمتغيرين إليه عند خوفهم منه، ومطاردة الدولة له ولهم، هم مستخدمو "واتسآب"، أو أي تطبيق أو موقع قريب منه. فهؤلاء، وعندما يستخدمونه، يكرسون بيان الشيطان، وبالتالي أكله لنظام قديم، نظام "الأشخاص الأربعة"، نظام المؤسسة الدينية المعلِّمة والدولة المطاردة، ومعهما، التلفزيون الداحض، ما يسمح بولادة نظام جديد مكانه، يقوم على أن موضوع الرسالة فيه هو أثر من آثار الوسيط، وبكون "الرسالة هي الوسيط" على قول شهير لماكلوهن.

لكن قصة الشيطان لا تنتهي هنا، بل إن متلقيها يستمرون فيها، بحيث أنهم يتناقلونها، يرسلونها إلى بعضهم البعض، يتفرجون عليها، ويسمعونها. التلفزيون يشير إلى أن تداولهم للرسالة يعني أنهم معتقدون بها، وأنهم مذعورون، وهذه إشاعة أخرى، يبثها لكي يستهدف الوسيط، الذي يلخبط نظامه المتداعي. ذلك أنهم، وفي نظامهم الجديد، ثمة انفصال بين تلقي الرسالة والإنفعال بموضوعها، بين تداولها والتأثر به، فما أن تصل إلى هواتفهم حتى ينقلوها إلى أغيارهم لأنهم ملزمون بنشرها، بجعل موضوعها موضوعاً للتواصل، للترفيه التواصلي على وجه الدقة. بهذه الطريقة، ينتقل بيان الشيطان من كونه أثراً من آثار الوسيط، إلى كونه موضوعاً من مواضيع الإستهلاك التي تنتشر عبره، وبهذه الطريقة أيضاً، يجري التخلص منه. فقد استحضره النظام القديم من خرافته ليهدد به، لكنه سرعان ما مات في النظام الجديد من خلال التسلية به.