"لحم وأرز وخضار..."حكاية من مطبخ عبد الناصر!

أسامة فاروق
الأحد   2017/09/24
طبقا لرواية هيكل فإن جل ما تركه ناصر لم يتعد أربعة آلاف جنيه
وكأنه لا مجال للعقل حين يكون الموضوع جمال عبد الناصر! 
تجربته ملك الأجيال، هو بشر يخطئ ويصيب... كلها شعارات تذوب مع أقل تلميح بالإساءة، أو مجرد محاولة من تلك الأجيال لإبداء وجهة نظر مخالفة للسائد والمعروف.

"تجربة عبد الناصر ليست فوق النقد، بالعكس فإن نقدها بالتقييم مطلوب" يقول محمد حسنين هيكل، الصحافي الأقرب لناصر، ومؤرخ عصره وسيرته، في سياق سلسلة مقالات خصصها للدفاع عن ناصر بعد حمله تعرض لها عقب وفاته مباشرة، لكن كلماته التي تبدو عقلانية ومحايدة، يتبعها مباشرة تشبيه المعارضين الناقدين بأرباب المواخير، يقول: "لكن جامعة القاهرة مثلا –مهما كان أسباب قصورها- لا يمكن أن تحاكم من علب الليل في شارع الهرم"! وهو ويا للغرابة التشبيه نفسه الذي يطال الآن عمرو موسى، الأمين العام الأسبق لجماعة الدول العربية، ووزير الخارجية المصري الأشهر، بعد جمل عابرة في سيرته الذاتية الصادرة مؤخرا في القاهرة، قال فيها إن عبد الناصر كان يأتي بطعامه من سويسرا.

لجأ المدافعون للطريقة الأسهل، وخاضوا في سيرة الرجل، قالوا إنه مجرد "خمورجي" يجرح في الرموز لترويج سيرته، وأنه جبان لم يكن يجرؤ على التحدث بهذا الكلام من قبل، حتى إن أحد الرافضين قال في سياق دفاعه عن عبد الناصر "لو كان حيا لقتلك"!

الأغرب أن موسى تحدث أيضا عن ديكتاتورية ناصر، لكن ذلك الحديث لم يلق رد الفعل نفسه من المدافعين، الذين ركزوا جهودهم كلها في دحض وقائع كان موسى طرفا فيها وتخص مطبخ ناصر، حيث قال موسى إنه كان مسؤولا عن استيراد الطعام الخاص لعبد الناصر -خلال فترة مرضه-  وتحديداً من سويسرا، لاهتمامه بنظام غذائي يؤدي لخفض الوزن، أي أنه كان يفعل ذلك بسبب المرض، لا بحثا عن وجاهة اجتماعية.

مطبخ عبد الناصر بالتأكيد لم يكن ضمن اهتمامات هيكل الذي أرخ للفترة كلها، لكنه رغم ذلك لم يغب عن كتاباته، ففي أحد مقالاته يسأل هيكل: هل كان نمط حياته يزيد عن موارده وهل كان مضطرا إلى أن يجارى مستويات من المعيشة يراها من حوله مترفة ناعمة؟ ويجيب على نفسه: لم تكن للرجل –وهذه حقيقة عرفها كل الذين خالطوه في مصر أو في العالم العربي أو في الدنيا الواسعة كلها –شهوة في طعام أو شراب، وكان أفخر الطعام عنده على حد تعبيره "لحما وأرزا وخضارا" و"ماذا يأكل الناس غير ذلك؟".

كان تساؤل عبد الناصر مشوبا بالدهشة والاستغراب، وحينما كان يقول له هيكل إن الدنيا تقدمت ومع التقدم تطور المطبخ ولم يعد الطعام وسيلة للشبع ولكنه أصبح فنا من فنون الحياة "كان ذلك في رأيه تجديفا يكاد أن يقترب من الكفر بنعمة الله!".

وإن كان من السذاجة الاعتماد على آراء هيكل وحده في تفنيد موضوع كهذا، فإنه من اللافت أن تكون رؤية أعداء عبد الناصر مؤيدة للمعلومات نفسها؛ ففي كتابه المثير للجدل "الملاك" والذي صدرت طبعته العربية مؤخرا، يقول يورى بار –جوزيف الضابط الذي خدم على مدى 15 عاما في جهاز المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي إن عبد الناصر كان يعاني من مشاكل صحية، منها مرض السكري والقرحات "وهو السبب في أنه كان يتناول طعاما معدا خصيصا له، حتى في المآدب الرسمية".

الضغوط التي مر بها جمال عبد الناصر في أغلب فترات حكمه، لم تكن تساعده مطلقا على تحسين وضعه الصحي، ومنذ عام 1961 بدأ فعليا في تناول مسكنات الألم بشكل منتظم، ثم جاءت حرب 1967 لتجعل الأمور أسوأ على جميع الأصعدة، فآلامه التي لم تعد تطاق، أدت إلى نوبات من التوتر والعصبية، وارتفع معدل السكر لديه، وبدأت تظهر عليه أولى علامات مشاكل القلب، وكتب الدكتور الصاوي حبيب الذي عُيّن كطبيب خاص لعبد الناصر إنه –ناصر- عانى من أول ذبحة قلبية في كانون الأول من عام 1969 وبعد تعافيه منها رفض نصيحة طبيبة بأن يبطئ من إيقاع حياته. وفى أوائل تموز من عام 1970 أثناء زيارة له لموسكو أدخل المستشفى وخضع لسلسلة من الفحوص، كشفت أنه يعاني من تصلب الشرايين ومرض القلب، وعليه أكد الأطباء على ضرورة تناوله لأنواع محددة من الأطعمة.

ومن حين لآخر كانت تصدر في وسائل الإعلام الغربية تقارير عن اعتلال صحة ناصر، لكن في الداخل لم يكن هناك مجال للحديث عن أمور كتلك، فلم يكن الرأي العام الداخلي مستعدا لتقبل أي هزيمة أخرى تطال الزعيم والرمز، حتى لو كانت من شيء خارج إرادته كالمرض.

في شهادة المؤلف الإسرائيلي نفسها يقول إننا لا يمكن أن نعرف مدى تأثير مكانة ناصر الأسطورية على حياة عائلته أو تأثيرها على طريقة تربيته لأولاده لكنه كان يرفض مظاهر البذخ، التي يصر عليها صهره أشرف مروان "ما نعرفه فقط هو أن عبد الناصر بعكس الحكام العرب الآخرين، وخاصة سلفه الملك فاروق، لم يستغل مكانته لتحقيق أي مكاسب شخصية. إذ استمرت عائلته في العيش في المنزل نفسه الذي كان قد اشتراه في منشية البكري بعد زواجه من تحية عام 1944، واستمرت تحية في تدبير أمور المنزل معتمدة على راتب زوجها المتوسط نسبيا. كما استمرت العائلة بركوب سيارة الأوستن نفسها التي اشتراها ناصر حين كان لا يزال مدرسا في الأكاديمية العسكرية، وحين أصبحت السيارة في الرمق الأخير استبدلوها بسيارة فورد اشتروها بالتقسيط".
كانت هذه رؤية الخصوم، فماذا عن المحبين؟ 
كان جمال عبد الناصر ديكتاتورا لكنه لم يكن فاسدا، حسب رؤية الكاتب جلال أمين، في كتابه "مصر والمصريون في عهد مبارك" وفي تفسيره يقول إن عبد الناصر عاش ومات في البيت الذي كان يعيش فيه قبل الثورة، وظل هو وزوجته، طوال حياتهما بسيطي الملبس والمأكل دون أي مظهر من مظاهر البذخ، وماتا دون أن تعرف لهما ثروة تذكر، وقد باءت بالفشل الذريع المحاولات القليلة التي بذلت بعد وفاة عبد الناصر لإثبات أنه ترك حسابا في أحد البنوك خارج مصر.

والحكاية كما يرويها هيكل، تقول إن عبد الناصر اتُهم بعد ما يقرب من ست سنوات على رحيله بأنه اختلس لنفسه وهرب إلى الخارج لحسابه مبلغ خمسة عشر مليونا من الدولارات، خمسة منها قدمها الملك سعود تبرعا للمجهود الحربي المصري، والعشرة الباقية قدمها الملك سعود أيضا قرضا لمصر، ولكن جمال عبد الناصر اغتصب هذا كله لمنفعته الشخصية وأودع الأموال في حساب باسمه في الخارج.

وقتها شُكلت لجنة تحقيق خاصة "تحت ضغط شعبي غاضب" لإثبات الحقيقة كما يقول هيكل، وأبرزت وثائق الدولة الرسمية ومؤسساتها المصرفية ما أثبت أن تبرع الملك سعود ظل موجودا في حساب التبرعات التي يشرف رئيس الجمهورية على توجيه صرفها، وأن الحساب كله انتقل من إشراف جمال عبد الناصر بوصفه رئيسا للجمهورية إلى إشراف أنور السادات حينما تولى المسؤولية بعده "ثم إن الملايين العشرة من الدولارات التي قدمها الملك قرضا لمصر في ذلك الوقت، جرى توقيع الاتفاق بشأنها وجرى التصرف فيها بواسطة وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ووزارة الخزانة والبنك المركزي المصري، وإنها دخلت موازنة الدولة وتحركت في كل مراحلها من القبض والصرف في إطار مطالب الدولة وبواسطة أجهزتها المتخصصة".

لكن اللافت والمهم هنا بخلاف حديث هيكل عن الوثائق ومحاضر الاجتماعات، هو حديثه عن الزاوية الاجتماعية أو نمط حياة عبد الناصر الذي لم يكن أبدا يسمح له باقتراف أفعال كتلك، وكان من المعايير الصارمة التي ألزم نفسه بها أن لا يمتلك أرضا أو عقارا، فما بالك باختلاس الأموال، لأنه كان يعتقد أن الملكية هي التجسيد العملي للامتياز الطبقي.
لكن ذلك لا يعني أن عبد الناصر كان حاقدا، فقط كان يرى الغنى الفاحش في وسط الفقر المدقع جريمة لا تغتفر، وهكذا جعل هدفه الذي لا يحيد عنه تذويب الفوارق بين الطبقات، "ولو أنه وجد نفسه من الأغنياء – أو أوجدته مطامعه بينهم- لاختلفت تصرفاته، ذلك أن كل إنسان حريص على مصالح الطبقة التي ينتمي إليها، أو حتى يتطلع يوما للانتماء إليها". وهي الرؤية نفسها التي يؤكدها جلال أمين، فلم يكن عبد الناصر يتصور أو يقبل أن يثرى أحد رجاله على حساب المال العام "ومن ثم كبح جماح هؤلاء الرجال مجرد الخوف من الرئيس، إذا لم يكن لديهم مثل ما لديه من القدرة على مقاومة إغراء المال".

يحكي جلال أمين أن صديقا له وكان يعمل في سفارة مصر في روما عام 1959 خرج لمرافقة السادات في التفرج على روما ومحلاتها، فأعجبت السادات جاكتة خضراء فاقعة اللون، وكان يريد شراءها ثم أحجم قائلا جملة أشار أمين إنه لا يستطيع كتابتها وتتضمن ما يمكن أن يقوله له عبد الناصر لو رآه مرتديا هذه الجاكتة.

كما يحكي صلاح الشاهد في كتابه "ذكريات بين عهدين" وكان مسؤولا عن شؤون البروتوكول والمراسم قبل الثورة وبعدها، قصصا تؤكد رفض عبد الناصر البات أن يتمتع أولاده بسلع كهربائية مستوردة كانت ممنوعة على سائر المصريين، وخوف أولاده من أن يحصلوا على هذه السلع تجنبا لغضبه، كما ترسم عشرات الكتب والشهادات صورة واضحة تماما لشخصية عبد الناصر لا مكان فيها للضعف أمام المال وإغراءات الحياة.
حتى إنه كان يعتقد اعتقادا جازما لم يخالجه شك فيه أن أسرته لن تحتاج شيئا من بعده، يقول هيكل: "أذكر –والله شاهد- مرة تحدثنا فيها عن أولاده ومستقبلهم وكان قوله إنني أعرف الناس في بلدنا وأعرف طيبة قلوبهم، وأعرف أنهم بعدي سوف يضعون أولادي في عيونهم".

وطبقا لرواية هيكل وغيره فإن جل ما تركه عبد الناصر لم يتعد أربعة آلاف جنيه، ألف وخمسمائة منها قيمة بوليصة تأمين على حياته عقدها قبل ذهابه إلى حرب فلسطين، هذا الى جانب حساب في بنك مصر باسمه شخصيا كان رصيده حوالي ألفين وأربعمائة جنيه، بل إن هناك روايات تؤكد أنه كان مدينا بحوالي ستة وعشرين ألف جنيه بقيت عليه من تكاليف بناء بيتين، لكل واحدة من بناته!