هجرة الشعر العراقي من منفاه

منال الشيخ
الإثنين   2017/08/07
"كان يوماً" اسماعيل الشيخلي
ظلَّ الشعر العراقي لفترة طويلة أسير التنميط، واضفاء هالة وهمية عليه بأنهُ الشِعر المقدس الذي لا يقبل التفاوض. ومن هذه "المفاوضات" مستحيلة القبول هو التركيز على اللغة و"اللغو". الشاعر الذي ينشأ في وسط عراقي قبل خروجه من شرنقة "المحلية"، لا بدّ وأنه يمر بحالة من التبعية اللا إرادية لهذا التنميط. لكن الحرب، رغم قذارتها، كان لها الأثر الإيجابي على الشعر العراقي بشكل خاص، والعربي بشكل عام. 

يفضّل البعضُ تصنيف الشِعر بحسب الجغرافيا والأجيال، لكن التجارب الشِعرية عبر التاريخ تبين أن لا حدود ولا جنسية للشعر سوى ما تحملهُ من سمات خاصة ضمن ظروف وتجارب معينة. هذه الظروف "المعينة" يمرُّ بها الشِعر العراقي بعد ثلاثة عقود من آثار حرب الخليج والحصار الاقتصادي والاحتلال، حتى وصلنا أخيراً مرحلة داعش. ما الذي تغيّر في الشعر العراقي بعد داعش؟ في البدء أودُّ أن اسأل هل فعلاً نحن ما بعد داعش أم ما زلنا ندور في دائرتهِ الُمفرغة؟ كلما ظننا أننا خرجنا منهُ دخلنا في دائرة أكبر.

بسبب كثافة التجارب الشعرية المطروحة في الوسط الأدبي في العقدين الأخيرين، صار من الصعب تحديد سمات "القصيدة العراقية"، إن صح التعبير في تسميتها كذلك. صارت القصيدة تترنح بين الذاتي والعام في تناول الحدث. لتشابه الأحداث التي يمرّ بها الشعراء بشكل يومي، خصوصاً الشعراء المقيمون في الداخل، الذين يواجهون أوجه الموت بشكل مباشر، تأتي هذه التجارب متقاربة في التشكيل والبنية إلى حد ما. لن أدعي أنني متابعة جيدة للمشهد العراقي مؤخراً، لكني أقرأ باهتمام كل تجربة جديدة أصادفها. بعضها يجعلني أتوقف كثيراً أمامها كيف مرت القصيدة في مراحل، لتصل إلى شكلها النهائي الذي نقرأه. وأمرّ على بعضها مرور الكرام، فهي تبدو لي لم تتخلص بعد من تأثير موجة "التمويه والسوريالية" أو المبالغة اللغوية التي اتسمت بها قصيدة الثمانينات والتسعينات تحديداً. أصبحت "القصيدة العراقية" بعد أهوال الاحتلال والحرب الطائفية وداعش، أكثر وضوحاً وبملامح مرئية ومحسوسة، بعدما كانت مستترة خلف استعارات وتراكيب صورية تُربك القراءة. صرنا نقرأ تجارب حقيقية من قلب الوجع لم نكن نتخيل أن نقرأ مثلها. "قصيدة التجربة"، بالنسبة اليً، تجلّت بشكل أكبر عند سعدي يوسف وبلند الحيدري ويوسف الصائغ وآدم حاتم، على قلة ما وصلنا من نتاج الأخير، الذي ما أن بدأتُ بقراءة أعمالهم حتى تعرفتُ على ملامح جديدة عن الشعر العراقي، رغم التصاق بعضها بشكل قصيدة التفعيلة. مع أن قصائد الروّاد كانت أيضاً مبنية على تجارب شخصية لكنها لم تأتِ بذات خصوصية تجارب هؤلاء في تلك الفترة. في الشِعر تحديداً ليس هناك تقييم منضبط للأعمال يمكن اتخاذه كقاعدة، لأن الشعر من أكثر الأجناس الأدبية ذاتية، على مستوى الكتابة والتلقي.

لا أعتبرُ هذا المقال استقراءً لتاريخ الشعر العراقي وتجاربهِ، لكني أحاول هنا استحضار نماذج قريبة من فكرة "القصيدة التجربة"، إن صحت التسمية، في ترسيم ملامح القصيدة العراقية الجديدة. سأستعير هنا مقولة الشاعر النرويجي الحداثي أولاف هَوگه (1908-1994) عندما سألوه عن القصيدة الجيدة فأجاب: "القصيدة الجيدة هي القصيدة المبنية على تجربة شخصية". 
ومن هذه النقطة التي أشار إليها الشاعر، أجد أن تجربة شعراء شباب كمثال وليس للحصر، مثل كاظم خنجر، تحقق هذه "الجودة" في بناء القصيدة وتمثل التحول الملحوظ في الشِعر العراقي. وسط العشرات من التجارب الشابة، التي تستحق الاهتمام، يقفُ خنجر وحيداً في زاوية تجريبية لا يتجرأ الكثيرون البدء بها. كان أول الجرأة هو التخلص من الإرث اللغوي الذي لم يطور نفسه وتراكم وأثقل كاهل "القصيدة العراقية" عموماً لعقود. ما زالت القصيدة الحديثة حبيسة الزخرفة اللغوية والفكرية الكلاسيكية بسبب التبعية لإرث لم يزل يحكم وسطنا الإبداعي. وهذا ما لا يود أن يعترف به الكثيرون خاصة النقّاد والأكاديميون. بل يعتبرون الخوض في هذه المسألة المهمة هو من المحظورات لأنه، برأيهم، قد أُغلق الكتاب في شأنه.

إذا كانت هناك قصيدة تُعبّر عن مرحلة ما "بعد داعش" كنموذج فهي قصائد خنجر. على طزاجة تجربة الشاعر الشاب، والذي ما زال يخطو خطواته الأولى في عالم الشعر، إلا أنه أثبت منذ أول ديوان له المعنون "نزهة بحزام ناسف"، رسوخه في تجربة شعرية تبشر بالمزيد مستقبلاً. فلا أعرف ما معنى أن يكون الشعر متخيلاً؟ كيف للقصيدة أن تُخلق من فراغ تخيلي فحسب؟ نعم، إن الخيال واللغة من أساسيات القصيدة وستبقى، لكن هذا لا ينفي دور الفطرة والعفوية في تناول هذه الأدوات. يقول:

"البارحة ذهبت إلى الطب العدلي.
طلبوا بصمة مطابقة للحمض النووي.
قالوا إنهم عثروا على بعض العظام المجهولة الهوية.
وفي كل مرةٍ أدور مثل برتقالة على سكينة الأمل.
……..
هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخاً؟"

هذا ما عايشهُ ويعيشهُ خنجر بشكل يومي، أن يصادف الجثث المتطايرة مع نقرة زر لانتحاري. أن يرافق عظام أخيهِ، في حافلة نقل عام وهو يدفع ثمن "التوصيلة"، إلى مثواه الأخير. أن لا يفهم ما يحدث بالضبط وكل ما يعيه أن يكتب عن هذه اللحظات طالما كان قادراً على التنفس. يستثمر خنجر كل تفصيلة تمر عليه في يومهِ، ليكوّن منها قصيدتهُ. وهذا ليس جديداً في القصيدة الحديثة، أو ما يسمى قصيدة التفاصيل اليومية، لكنهُ الشِعر هو الفاصل بين نص تقريري وبين نص شِعري. أدرك خنجر هذه الجزئية في لعبة القصيدة مبكراً إلى أن صارت عكازهُ في كتابتهِ اليومية حتى مع اختلاف المكان:

"يحب الفرنسيون تربية الكلاب
وعندما أراهم يتجولون بها 
أركض بعيداً 
كي لاتشم الجثثَ على ثيابي".

يحملُ خنجر معهُ رائحة الموت أينما حلّ. فهو هناك، في بلدة فرنسية، رغم بعدهِ عن الموت اليومي في قارة أخرى، لكنهُ ما زال يلمح الخوف في عيون الكلاب الأليفة من رائحة الجثث على ثيابه. ما التجربة الشخصية في كتابة قصيدة إن لم تضرب بهذا العمق في وتر الإحساس؟
 إن تميز تجربة خنجر وتجارب مماثلة تأتي من كونها تعيش ذاكرة طازجة وحاضرة. وهذا ما حُرمَت منهُ بعض الأجيال السابقة في استثمارها، بسبب الملامح السياسية للفترات التي عاصروها. حيث فرضت تلك الملامح نوعاً من التحفظ والتورية في شكل ومضمون القصيدة. الحرية في المرحلة الأخيرة طالت القصيدة والموت معاً. وربما جاءت القصيدة متحررة أكثر لأن الموت تحرر من أشكاله النمطية التي اعتاد عليها الإنسان العراقي. تجاوز خيال الموت كل التصورات وصار يأتي بأشكال لم نعهدها من قبل، وهذا ما نلمسهُ في قصائد خنجر الذي يرصد أوجه الموت المتعددة.

بسبب تغير ملامح البلد السياسية والاجتماعية، صارت جلية أكثر وذات خصوصية تتسم بقسوة التعبير ووضوح الكلمة والصورة والمشهد. أصبح الشاعر العراقي أكثر قرباً من نفسهِ، التي هي نفس الحياة، فأصبحت القصيدة تتنفس الحياة حتى وهي تغرق في "بحر" الموت.

يبقى الهاجس المخيف أو القلق على القصيدة "المشهدية"، كما يحب البعض تسميتها، هو أن يستمر أصحابها في تنميط "الدهشة" دون تجاوز العنف على حساب الشِعر. فتكرار "الدهشة" بحد ذاتهِ نقطة محسوبة على القصيدة والشاعر وليس لهما.