عن مزاج الباحث العربي وأحكامه على الرواية والشعر

عبد الدائم السلامي
الأحد   2017/08/06
من أعمال شفيق عبود
هل صار من الأمانيِّ أن نقرأ كتابا أو مقالا أو حوارا  لأحد الأكاديميّين العرب يُقنِع فيه بكونه واعيًا للعالَم وعيًا أدبيًّا نظيفًا لا يُعذِّبُ ذاتَه، ولا يُردّد فيه إجاباتٍ عافها الناس ويتناسى أسئلةَ واقعهم فيعذّبهم عذابًا أزرق من حيث لا يشعرون؟ لماذا تعيش كثرة كثيرة من الأكاديميين وسواساتٍ معرفيةً خَوَارِجِيّةً أقنعتهم بأنْ لا حُكْمَ في الأدب والفكر إلاّ لهم، ومنعتهم من التقاط همس اللحظة الإنسانية المعيشة القائل إنّ الإبداعَ ليس تجميعا أمينا لما كتب الغابرون سواء في شكل موسوعاتٍ تكرارية أو في شكل دروسٍ باردةٍ عديمةِ النّفعِ وإنما هو على حدّ عبارة بلانشو "خلقُ ما لم يُوجَدْ بعدُ في العالَم"، ولا في غوغل؟ ألا يعدّ هؤلاء لعنةً على البحث العلمي، وعالةً على شعوبهم؟

سألت هذه الأسئلة، وغيرَها، بعد أن قرأتُ حوار الدكتور عبدالله إبراهيم، الناقد والأكاديمي العراقي، المنشور في صحيفة الحياة بتاريخ الثلاثاء ١ أغسطس/ آب ٢٠١٧، حيث وقفتُ فيه على كونه حوارًا كُتبَ "على مزاج الباحث" ذلك أن كلّ الأسئلة جاءت مُلخِّصة لموقفه ولم تستفزّه أبدا، ولعلّ خبرتي في المجال الصحفي تجعلني أميل إلى الاعتقاد بأنّ الباحث هو من أملى الأسئلة أو شارك في صوغها وَفْقًا لما ينتوي هو الإفصاح عنه. يضاف إلى هذا أنّ اجتهادَه في تأكيد صفاته الأكاديمية كان أكثر حضورًا من اجتهاده في تأكيد نسبيَّةِ أحكامه الثقافية التي أصدرها في الحوار وبدت لي حُبْلى بتقرُّحات آراءٍ فاسدة حول غلبةِ السرد على الشعر في مدوّنتنا الإبداعية العربية القديمة، ونشأةِ الرواية العربية، فضلا عن انتقائه مجموعة من الروائيين بوصفهم يمثّلون أفضل الأسماء الروائية العربية الراهنة. وهي آراءٌ ضعيفة الحُجّةِ ويُناقض بعضُها بعضًا دون حياءٍ أدبيٍّ.


يذهب الدكتور عبدالله إبراهيم، الساعي إلى "تفكيك المركزية الغربية"، و"الراصد والمحلّل للظاهرة السرديّة"، إلى القول:" لم يشكل الشعر في تقديري غير نشاط ثانوي في الآداب العربية"، وهو قول أراد به إثباتَ أنّ السرد "كان قديماً وحديثاً هو الأكثر تأثيرا" في هذه الثقافة كالمقامات، والسير الشعبية، والنوادر، وقصص الحيوان وغيرها. والحال أنّ في قوله مغالطات تاريخية منها على سبيل التمثيل أن الشعر كان أكثر حضورا من غيره من الفنون في ثقافتنا العربية القديمة إذ مثّل "علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" على حدّ قول عمر بن الخطاب، وقد اعتمده النحويّون بَيِّنةً لتقرير قواعد اللغة العربية، يُضاف إلى ذلك أنّ صناعته أقدم من صناعة كثير من الأنواع السردية، فقد ظهر تقريبا منذ 150 سنة قبل الهجرة بينما ظهرت المقامة- على سبيل التمثيل- في القرن الرابع الهجري سواء أكان مبدعها الهمذاني أم هو قد أخذ فنَّها من أبي الحسين أحمد بن فارس أم من أحاديث بن دريد. ولو لم يكن الشعر قديما ذا أثر في الناس لما كانوا خصّصوا لشرحه ونقده كتبا عديدة منها "نقد الشعر" و"طبقات الشعراء"، وهو الأمر الذي لم يحدث مع الأنواع السردية التي ذكرها الباحث إلا متأخّرا. وهذا ما يفنّد قوله "لا تمكن مقارنة الشعر، لا من ناحية الوظيفة ولا من ناحية الكم والنوع، بتلك التركة الضخمة التي صاغت مشاعر الأمة، وعبّرت عن عواطفها وتصوراتها تجاه ذاتها، وتجاه الأمم الأخرى".


وتكشف قراءة الحوار عن حقيقة أنّ الباحث قد مزج في حديثه عن الشعر والسرد بين ماضي الأول وحاضر الثاني في شكل مغلوطٍ، ومن صور ذلك إقراره في مرحلة أولى بـ"الاهتمام الرسمي بالشعر في قصور الخلفاء والولاة والأمراء في الماضي"، وقوله في مرحلة ثانية إن الشعر صار الآن ثانويا فقد "انحسرت وظيفة الشعر، ويعود ذلك إلى انهيار قيمة القول الشعري". قال هذا متناسيا أنّ بين "رسمية الشعر" قديما وانهيار وظيفته الآن بالتزامن مع توهّج الكتابة الروائية أربعة عشر قرنا من التحوّلات الثقافية والاجتماعية والجمالية، وأنّ ضمور فاعلية الشعر في واقع العرب الراهن يجب ألا ينفي عنه جلال وظيفته لدى الأقدمين من أسلافهم.

ولأن ما قاله الدكتور بخصوص ضمور الشعر وتوهّج السرد كان تمهيدا منه للحديث عن أنّ للرواية العربية أصولاً سردية عربية ولا صلة لظهورها بالرواية الغربية، فلا بدّ من الإشارة إلى الخلط البَيِّنِ بين المفاهيم لديه، فالخبر، والأمثولة، والمقامة، هي أنواع سردية قائمة بذاتها، ووجودها لا يعني وجود الرواية بوصفها نوعا سرديا حديثا، فكما يصعب ردّ ظهور المقامة إلى وجود الأمثولة أو الخبر يصعب أيضا ردُّ نشأة الرواية إلى نوع من هذه الأنواع السردية المذكورة.

وإذا كان الدكتور عبدالله إبراهيم قد اعتبر الشعر ثانويا في ثقافتنا العربية لأنه نتاجُ الاهتمام الرسمي في قصور الخلفاء والولاة والأمراء في الماضي، وحضوره في المنابر والمحافل والمناسبات ووسائل الإعلام في العصر الحديث، فقد منحنا حقّ اعتبار كتابه "موسوعة السرد العربي" عملا ثانويا أيضا لأنه لاقى احتفاءً من قبل السلاطين والملوك والإعلام، حيث يقول: "مُنحتُ جائزتا الملك فيصل والشيخ زايد على بعض مؤلّفاتي في دراسة السرد العربي الحديث، ومعظمها اندرج، لاحقاً، في "موسوعة السرد العربي". ولم يكتفِ الباحث بهاتيْن الجائزتيْن وإنما أوحى بأنه من أولئك الذين يردِّدون دعاءَ "اللهم أنْعَمْتَ فزِدْ"، وذلك في قوله "فإن جاءتني جوائز أخرى لتقدير هذا الجهد بعد اكتماله، فلا بأس، حتى من باب ترسيخ الاعتراف بالدراسات السردية الحديثة"، وهو دُعاءٌ إذا لم يسبقه شكر لصاحب النعمة صار دعاءً رأسماليا وغيرَ أخلاقيٍّ، لأنّه يُحيل على أن الداعي جشع يُريد أن يأكل الدنيا وحدَه.


هل اطّلع الدكتور عبدالله إبراهيم المختصّ في السرديات على ما يُنشر الآن من روايات عربية؟ أسأل هذا السؤال ويقيني أنه لم يقرأ، إذا قرأ، إلا النزر القليل منها، وهو ما جعله يعوّل كثيرا "على الجيل الثالث" من الروائيين العرب الفائزين بالبوكر أو الذين راموا الفوز بها أمثال أحمد سعداوي، وخالد خليفة، ويحيى أمقاسم، وشكري المبخوت، وحامد الناظر، ويوسف فاضل، وأحمد مراد، لأنهم على حدّ قوله يمثّلون جيلا ذكيا وحادّ النظر ومتمكّنا من شؤون السرد. ولئن كان بعضٌ من هؤلاء جدير بأن يُعدَّ من الروائيّين فلا أخال شكري المبخوت - مثلا- روائيا بعد رواية الطلياني التي لم تفز بالبوكر لنصِّها فحسب وإنّما لأشياء أخرى خارج نّصِها عبّر عنها السوداني حمور زيادة الذي كانت روايته "شوق الدرويش" جديرةً بالفوز في تلك الدورة، بقوله في منشور فيسبوكي بتاريخ 24 جويلية 2015: (ومن جميل ما حفظته عن مريد البرغوثي ليلتها قوله وهو يضحك "هل أنا أحمق لأكون دائماً على صواب؟" فلما رأى السؤال في عيني، شَرَحَ: وحده الأحمق من يظن نفسه دائماً على صواب. وأنا لست أحمق.). وإذا كانت رواية الطلياني، تلك التي قرأتُها وحاورتُ المبخوت في شأنها قبل فوزها بالبوكر، وذلك ضمن عملي الصحفي الذي ينهض على غاية التعريف بالإصدارات الأدبية الجديدة وترغيب الناس في قراءتها، قد تضمّنت هَناتٍ فنيةً عديدة منها ما اتصل بالراوي ومنها ما اتصل ببرودة اللغة الحاكية وتَصَنُّعِ الحكاية، فإن روايته الثانية "باغندا" قد لاقت فشلا ذريعا وكشفت عن حقيقة أن المبخوت لا يتوفّر على خيال روائي، وإنما هو يريد أن يكون روائيا بقوّة العلاقات لا بالكتابة.