صالح علماني والواقعية السحلية

أحمد عمر
الإثنين   2017/08/28
صالح علماني: "لم يعرف التاريخ منتصراً أرحم من الجيش العربي السوري"
تقول تغريدة الوكيل العام والحصري "ليمتد"، لترجمة منتوجات شركة ماركيز وإخوانه، من أدباء أميركا اللاتينية، السيد صالح علماني: "لم يعرف التاريخ منتصراً أرحم من الجيش العربي السوري، أيها الإرهابي القاتل، سلّم سلاحك، و(سوّي) وضعك، وعش آمناً كيوم ولدتك أمك".

هذ تغريدة الماركيز السوري الفلسطيني. هي له أيها السادة، يا معشر قريش وغطفان، وليست لمهدي دخل الله، الذي أفتى للتائب العائد إلى حضن الوطن - في موسم الأهلّة- بضرورة تقبيل البوط ندماً على ما فرط في جنب الوطن، البوط هو الحجر الأسود عند النظام السوري.

وهي تغريدة متأثرة بالعشر الأوائل من شهر ذي الحجة، غفر الله للذين حجّوا من معبر سلوى، ومن معبر كرم سالم، وهي متأثرة بتصريحات سهيل النمر، الشهير بالنمر الوردي، ومقتبسة من قول شهير لغوستاف لوبون، يساوي فيه بين الفاتحين العرب المسلمين، الذين أذهلوا الغرب برحمتهم، وبين الجيش السوري، الذي أذهل شعبه ببراميل المجد والسكر، وفيها خطأ نحوي، حصرناه بين هلالين، وهو معذور، فنحن عادة نثرثر في الصفحات الزرقاء، ونمشي في براريها حفاة طوى.

وقد نقلها مشكوراً مأجوراً، زميله في الوزارة، صديقنا حسام جزماتي. وكان قد عمل زميلاً معه سنوات طوال في غرفة واحدة، فجعل للتغريدة شأناً، وكان قد نشر شهادات حول عمله في الوزارة بعد سبع عجاف من الثورة، وقد أهلكت الزرع وجففت الضرع، لكن المتابعين تلقفوها بشهية، وعلّق عليها قائلاً: أقسم بالله صار لي ساعة وأنا مذهول. ثم نادى التغريدة من تحتها قائلاً قولة قاطعة، فاحمة، سكتة، لا يخجل قائلها: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد تعلم حسام شيئاً من النظام، وهو التقية، والصبر، والانتظار، والإدكار. ويخشى أن يكون تشيّع ثقافياً من غير أن يدري، بدرجة أو أقل قليلاً. يقول حسام في شهادته:
"عملت مع صالح علماني على طاولتين متجاورتين لسنوات في وزارة الثقافة السورية، مع فارق العمر والخبرة والمكانة، لصالحه طبعاً. كان انفعالياً، طيب القلب، خجولاً، شديد التواضع. ومن الناحية السياسية، كان همّه الأساسي فلسطينياً (هو فلسطيني سوري) متحمساً للمقاومة، حتى لو كانت إسلامية تخالف توجهه العلماني الأصيل ويساريته، فكان يؤيد حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، وصولاً إلى شبه تقديس لحسن نصر الله، كما كان شائعاً.
أما من الناحية السورية، فكان متوافقاً مع المواقف الممانعة للنظام على المستوى العام، معارضاً ثقافياً -غير فاعل على الإطلاق-  له على المستوى الداخلي.
عندما اندلعت الثورة، كان قد تقاعد عن العمل، رأيته بالصدفة. لم أشأ تناول الموضوع خوفاً من أن تكون انحيازاته الفلسطينيية المقاومة قد غلبته، ولكنه بادر إلى فتحه وروى لي عن فظائع سلوك الجيش عندما اقتحم مدينة المعضمية بغوطة دمشق -حيث كان يقيم- لقمع المظاهرات، وكيف أن القوات الغازية دعت الأهالي عبر مكبرات الصوت إلى استلام الخبز من الساحة، بعدما كان قد انقطع أثناء الحملة، ولما جاء بعض الرجال والشبان اعتقلتهم...
كان متأثراً بشدة... كما يليق بإنسان... وكان موقفه شديد القطع والوضوح... وكان إعجابه بنصر الله قد انقلب إلى شتائم اضطررت إلى تهدئتها"!

ثم ينهي حسام شهادته بهذه الجملة باللهجة السورية، فالمصير التراجيدي لا تحتمله الفصاحة، فلا بد من النزول من برح الفصاحة إلى أرض الواقعية الصفرية السورية:
"وبعدين... ما بعرف شو صار للزلمة...!!!"

علّقتُ على منشور الصديق حسام قائلاً: إني التقيته مرةً واحدة، حللت فيها ضيفاً ثقيلاً على حسام، خطبني فيها خطبةً هامسة، كانت أهجية شديدة لنظام البعث، أكبرت فيها شجاعته، ونقاء سريرته، وصحوة ضميره، في زمن "القوليرا"، وربيع البطريق الدائم.

تقول إحصائيات دولية: إنّ الشعب السوري يعاني من أمراض نفسية، ولم نكن أصحاء قبل الثورة، والإحصائيات متقشفة، إذ تقول: إن بها ما يقرب من نصف مليون مجنون، ليس منهم السيد الرئيس، ولا النمر، ولا الجولاني... وأمس رأينا صوراً " للدويرينة" في إدلب، وقد امتلأت بالمجانين، رجال يتكئون على رفرف خضر، وعبقري حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان.
سألتُ قبل فترة صديقاً لي، يكنى بأبي الصفا، سؤال مَن ينهض من نومه، وقد رأى رؤيا، كفلق الصبح، ويريد أن يقرص نفسه بأنياب الذئب، وفكي الضبع، وذنب العقرب: ماذا يقصد الأسد عندما قال عن صور الهجوم بالكيماوي على خان شيخون: إنها مفبركة، أي مختلقة؟ فهل يقصد أنها تمثيل، أم يريد تذكيرنا باستوديوهات قطر الشهيرة؟ لمَ لا يتهم بها المعارضة؟ ووضعت يدي في زناره، راجياً متوسلاً، ومن تحت أخمصي الحشر، طالباً منّة الجواب.
قال: الرجل "يتخوّت"..

الجريمة كبيرة جداً، ولا تحتملها الجبال، وكان لا بد للرئيس من الهرب إلى الجهة التي هرب إليها القذافي، الأمام، والواقعية الصفرية نصف الأمام، لكن ما به حامل ميراث ماركيز العربي؟
 
وقد أعجبني جواب أبي الصفا، وكنت دائماً أعذر الناس، مطبقاً الوصية القائلة: "أعذر الناس أعذرهم للناس". وكان لي زميل خرج من السجن، بتهمة تشابه الأسماء، بعد سنتين، وتلك مدة قصيرة، وبرقية في سوريا الأسد. والسوريون المعاصرون يتشابهون في الأسماء، كما أهل الصين في الهيئات، فلم ينطق بحرف، وكأن فمه شدّ، حتى نسج عليه العنكبوت مخيمات ومدناً، لكني مثل حسام لا أفهم نفاق رجل يقيم في الأندلس، وهي أخت الشام، وليست له مزارع وقصور فارهة مثل قصر فيصل قاسم النووي، يخاف عليه، ويقبل بوطا خفياً، ويحنُّ إليه حنين الناقة.

عفواً، نحن نريد في هذا المقال، شؤون الواقعية السحرية، التي كلف بها الأدباء العرب، ونخصُّ منهم السوريين، وكان صديقنا حسام، الذي نشر هذه الشهادات متأخرة، في ما يشبه الانشقاق المتأخر من الوزارة، يثني فيها على محمد كامل الخطيب، ويذكر هذه المأثرة التي قلَّ نظيرها:
"كان وفداً غريباً ذاك الذي دخل إلى وزارة الثقافة ذات ظهيرة... مجموعة من الرجال والشبان، يتقدمهم شيخ علوي، سألوا عن غرفة مدير التأليف والترجمة، مديري، محمد كامل الخطيب، واتجهوا إليها.
مرّ وقت قبل أن أعلم أن الشيخ هو عم المدير (إذ إن العائلة لم تأخذ كنيتها "الخطيب" من فراغ، بل من تحدرها من سلالة مشايخ في الطائفة)، وأنه جاء بصحبة "دَكتُور" من المنطقة، خرّيج الاتحاد السوفياتي، قد ترجم كتاباً عن الروسية، وطلب من الشيخ أن يكتب مقدمته، لما له من وجاهة، ثم طلب منه أن يعرّفه على ابن أخيه، أملاً في نشر الكتاب ضمن مطبوعات وزارة الثقافة.
غادر الوفد بمثل ما استُقبل به من حفاوة وتكريم، واستقر الكتاب على طاولتي خلال ساعة، بعدما حوّله الخطيب لي لتقييمه من دون أن يقرأه.
كان الكتاب علمياً، ولكن من نمط خاص، إذ كان يسوق كمية كبيرة من المعلومات التي كتبها قلم عالم مختص محترف، ولكن ليخلص إلى بنية ما ورائية تصل إلى تأييد معتقدات مثل التقمص وما إلى ذلك.
كنت أعرف أن الخطيب مثقف مستقل، وليس "ابن العائلة"، ولكني كنت قد لاحظت تهذيبه مع عمه وحرجه منه... وكنا قد اتفقنا، الخطيب وأنا، في بداية هذا العمل الذي رشحني هو له، على النزاهة واستقلال الرأي، وعدم السماح بالتدخلات... ولكن هذا كلام!
وقد حانتْ ساعة تجريبه، وأنا في الشهر الأول.
كتبتُ تقريراً عرضتُ فيه الكتاب في البداية، كما هو معتاد، ثم أوضحت أن مادته ومفرداته علمية، ولكن نظريته غنوصية. ثم قلت: إن الكتاب في لغته الأصلية -أو في السياق الأوروبي- ربما اعتبر تجريباً أو تخريفاً، ولكنه سيندرج حتماً، في السياق السوري، في سياق طائفي محدد لا يمكن لوزارة الثقافة أن تتبناه، باعتبارها مؤسسة وطنية عامة.
سلّمتُ الكتاب والتقرير حسب التسلسل، ولم أقل للخطيب كلمة واحدة بشأنه، ولا هو فعل. ولكنني علمت في ما بعد أنه عندما قرأ التقرير، عدلَ عن إرسال الكتاب إلى قارئ ثان كما هي آلية العمل المألوفة، واعتذر عن نشره على الفور".

هذه شهادة من مثقف سوري في زميله العلوي، وليست من كتاب "قلائد الجمان في معرفة عرب الزمان"، للقلقشندي، ولا من كتاب الطنطاوي "رجال من التاريخ"!

 لقد تكسر الخشب وأنا أدقّ عليه بيدي المضرجة. نجح الخطيب في اختبار حسام جزماتي، وألف مبارك يا حضن الوطن.

الشهادة غنية بالمعنى والدسم، وقد أختلف مع الصديق، في جهد الخطيب، الذي رأيته تجميعياً، فلعل ذلك من قصر نظر عندي، مع إعجابي بروايته هكذا كالنهر. وقد يكون محمد كامل الخطيب بطلاً، بمنعه كتاباً غنوصياً يسيء إلى الطائفة، ويكشف باطنيتها، ويفضح عرض النظام. وكانت المخابرات حريصة على إخفاء علوية النظام وطائفيته، وإن أمسى في الآونة الأخيرة، يحاول تطبيع الشعب، بالتلميح إليها في التمثيليات الساخرة. وأظن أنها ليست بطولة، وأصنفها في أبواب الواجب، ويشكر على موقفه من عمه وعشيرته، وكان محمد كامل الخطيب قد سبق الثورة بكتاب عنوانه: "وردة أم قنبلة". والعنوان تعبير أدبي عن شعار ساد لاحقاً: هو" الأسد أو لا أحد"، كأنما مات حزب البعث بالسكتة القلبية.

كثيرة هي الكتب التي طبعت لمثقفي الطائفة، تصديراً لهم في المشهد الثقافي، على حساب الشعب، أو تنفيلاً للغنائم، والأمثلة في الطباعة، أو في توليتهم رئاسة الصحف، أو المهرجانات الثقافية، وهي كثيرة لا تحتاج إلى دليل. بل إن أجيال الشعب السوري الجديدة لا تعرف مثقفين سوى من الطائفة، كأن السنّة أمةٌ أمّية، فلا خبر جاء ولا وحي نزل. في التلفزيون كان الأمر أشد وضوحاً، فالجوائز أكبر، والشهرة أشمل.

ومن البطولات، نتذكر أننا صفقنا لعضو مجلس شعب سوري، طالب بذكر حيثيات تولية الرئيس قبل بلوغ السن القانونية، فصار بطلاً، وكانت تمثيلية. سوريا الأسد برعت في التمثيل، وفن الإخراج. وقد توّج هذا الفن بتولي مخرج الفانتازيا التاريخية البرلمان السوري، فانخلي يا هلالة خانوم.. وهلالة لمن يعرف هي أرملة دون كيشوت سوريا وسائر المشرق.

أظن أننا مصابون بالمتلازمة السنيّة السورية، أو بفيروس حضن الوطن، وقبلة البوط معدية بالولاء. وحتى أشرح أعراض هذا المرض بسكاكين الكلام، أذكر بأن الحدّاد تقوى عضلته اليمنى، والعطار يقوى شمّه، وقد أقوت حرب سوريا وطال عليها سالف الأمد، والطحان يبيضّ شعره قبل الأوان، وبعد كل طحنة يشيب شعره من هول الرحى. وكنت أظنّ أنّ الثقافة تصقل المرء، كما تصقل المياه الحصى. ولم يسبق لمترجم أن نال مجداً كما ناله صالح علماني، إنه ظِل ماركيز، شبحه الحي، ماركيز هو مسيح كولومبيا، وعلماني هو بولسُها، الذي يكرز فينا بالبشارة والأمن والاستقرار، مع أنه لم يكتب مقالة واحدة. جاء مجده كله من الترجمة، فبخٍ بخٍ..

وصديقنا حسام لا يفهم ماذا جرى "للزلمة".
ويقف بعض العقلاء عاجزين عن فهم تحولات بعض المثقفين، الذين يظنونهم أبطالاً، في حروب الحبر والورق، فالناس كإبل مائة، وعلى أرض الواقع غير السحري، لا تجد فيهم راحلة.

وكما اقتبس صالح علماني قول غوستاف لوبون، يقتبس كاتب هذه السطور، قول محمد عبده، عندما زار أوروبا: وجدتُ في أوروبا مسلمين بلا إسلام، ووجدتُ في بلدي إسلاماً بلا مسلمين، فيقول: نحن نعيش الواقعية السحرية، وأدباء أميركا اللاتينية يكتبونها.

ويضيف كاتب السطور، وقد تقمص روح أكاكيأكاكيفتش، وقد سُرق وطنه:
إني فخور بك يا وطني المتجانس، يا وطن الفانتازيا التاريخية، والواقعية الكفرية والصفرية... يا وطني الرائع، يا وطني.