دليلك إلى موسيقى الفراغ

حسن الساحلي
الجمعة   2017/08/18
من ألبوم through looking glass
في بعض مهرجانات موسيقى الرقص الإلكترونية EDM، التي تنظم لأيام خارج بيروت، تٌملأ أحياناً الفواصل والإستراحات الطويلة بمقاطع آمبينت Ambient، وهي موسيقى متقشفة العناصر، هادئة، وغالباً خالية من الإيقاع. ترافق هذا التطور مع  تطور ظاهرة الـChill out Zone، المساحة المخصصة ضمن المهرجان لسماع الآمبينت، ويجلس فيها عادة من يريد أخذ استراحة من الموسيقى الصاخبة، أو من يريد أن يكون إجتماعياً فحسب. طبعاً تنظم عالمياً مهرجانات آمبينت وأصبح هناك شركات إنتاج متخصصة مثل Lobster Sleep Sequence، كما أن بعض مهرجانات "الرايف" يشارك فيها فنانو اللآمبينت المكرسين. ينبئ هذا بدخول أكبر للنمط الموسيقي هذا إلى الأسواق العالمية في المستقبل، ما يعني ربما إعادة إنتاجه وتحوله إلى أشكال أكثر ملاءمة للمعايير التجارية السائدة.


سمعت للمرة الأولى بتعبير "آمبينت"، حين أرسل لي أحد الأصدقاء في المدرسة، مقطوعة لفرقة اسمها "Shpongle"، تستعمل عناصر من الآمبينت والسايكوديليك ترانس. كانت فترة صعود موسيقى الترانس والتكنو في بيروت، والموسيقى الإلكترونية لم تكن تعني لي سوى حفلات الرايف الضخمة في صالات "فورم دو بيروت" و"بيال". ورغم أنها لم تكن إمبينت حقيقية، إلا أنها كانت هادئة في مقارنتها مع أنماط الـEDM الأخرى. لاحقاً أتاح لي موقع ساوندكلاود، التعرف على أنواع آمبينت أخرى، عبر مستخدم يخلط مقاطع صوتية مسجلة يدوياً، لأصوات الطبيعة خلال الليل أو لصوت بحر أو نهر، مع مقاطع هادئة تكون أحياناً مقدمات أغاني أو فواصل موسيقية طويلة مقتطعة من إسطوانات مغنين من آسيا والعالم العربي. لا يمكن فصل صعود هذا النوع من الآمبينت عن صعود المزج الموسيقى عالمياً، وانفتاح الفنانين على بحر من الأنماط الإثنية، وهذا ما زال مستمراً حتى اليوم، وهو بالمناسبة، يساهم في تراجع حركة التأليف الموسيقي بشكل عام.

 
قبل أعوام، حضرت حفلة لفنانة إيطالية في في صالة "آرت هاوس" في بيروت، وقبل بداية الحفلة أُعطينا عصبات لعيوننا. كانت مقطوعة آمبينت، تتألف من طبقات، منها ما هو مرتفع ومنها ما هو منخفض، كل طبقة نوتة واحدة تعزف بشكل مستمر. خلال الفترة نفسها، تعرفت على الإختزالية Minimalism في الفن، التي ما زالت نافذة في عدد من المجالات الفنية (كالتصميم مثلاً). يوضع ضمن هذه الخانة فنانون مثل غافن برايرز، تيري رايلي وستيفن رايش، وطبعاً جون كايج الذي أثّر نظرياً في أجيال لاحقة من فناني الصوت والموسيقى، منهم البريطاني براين إينو، أول من استعمل تعبير "آمبينت" لوصف ألبومه "موسيقى للمطارات"  في العام 1981.

استطاع إينو، تكريس نمط موسيقي جديد، ذي خصائص تسمح بتفريقه عن أنماط أخرى شبيهة، كانت موجودة، أو ظهرت لاحقاً، مثل New Age، إلكترونيكا، Chill، Lo Fi راغا، وغيرها. أهم هذه الخصائص التي سنصفها هنا بلغة الإنتاج الإلكتروني: التركيز على نوعية الصوت عوضاً عن الميلودي، أي "نسيج الصوت"، درجة التردد Frequency، والـTimbre. استعمال أصوات مسطحة "غير حادة الزوايا" وغير خشنة، نقل الأصوات التي تكون عادة في الخلف إلى مكان متقدم، التخفيف من استعمال الإيقاع بأشكاله كافة. 

وفق إينو، هي موسيقى لا يُعرف متى تبدأ ومتى تنتهي، ليست موجودة ضمن فضاء صوتي محدد وسياق زمني واضح". كما أنها تقع في مكان ضبابي، بين البساطة والتبسيط، الإبتدائية والبدائية: "فأن تنتج موسيقى بصوتين أو ثلاثة هو أكثر تعقيداً من إنتاج موسيقى بأوركسترا كاملة". تخاطر الآمبينت بالذهاب إلى المألوف لدرجة مبالغ فيها، تبقى هناك، وتكرر الأصوات نفسها بمونوتونية ولمدة طويلة، من دون تغيير أشياء كثيرة ضمن المقطوعة، ولذلك توصف بأنها موسيقى تفضل الثبات وعدم التغير: "لكنك عندما تنظر لوقت طويل إلى شيء معين، تتوقف عن رؤيته أو التركيز عليه، إلا أنك تبقى قادراً على الإنتباه إلى تغيّر العناصر ضمنه"، ما يعني عدم صحة الإنطباع بثبات هذه الموسيقى، طالما أن نسبة ما يتغيذر تعدّ منخفضة فقط عند مقارنتها مع نسبة التغيّر المعتادة للآذان المنمطة.

يذهب إينو بعيداً في ما يمكن تسميته "دمقرطة الفضاء الصوتي"، من خلال انتزاعه "المعنى الذي يُفترض أن يكون موجوداً داخل العمل الفني، منتظراً من يفك شيفرته". ويقتبس من إيمانويل كانط عندما يقول: "هناك شيئان ليس من الضروري أن يعنيا شيئاً، الموسيقى والضحك، وهذا ما يضمن على كل حال متعتهما العميقة". فالآمبينت لا تطرح الأسئلة الصعبة ولا "تذهب عميقاً"، وهي ليست مسكونة بالتقدم والمستقبل، ولا بالماضي والنوستالجيا، وتحاول فقط أن تلتصق بوظيفتها، أي تقديم إحساس معين والوصول إلى حالة معينة عند المستمع.
 

هنا يمكن العودة إلى جون كايج، الذي تحدث في أكثر من مناسبة عن طموحه في إنتاج مقطوعات موسيقية متحررة من الذوق الفردي والذاكرة والأدب والتقاليد الفنية. وربما هذا ما يحصل فعلاً مع مقطوعات الآمبينت التي تستعمل في جلسات العلاج بالموسيقى، أو التي تستعمل للتأمل، والتي يمكن أن تؤثر في أي شخص، بغض النظر عن ثقافته أو المكان الذي أتى منه.

يمكن القول أن جون كايج هو أول منظّر للآمبينت، لكن هناك شخص آخر، كان موجوداً في مكان قريب، وهو الموسيقي الفرنسي المثير للجدل إيريك ساتي (1872- 1925)، الذي طرد خلال شبابه من المعهد الموسيقي باعتباره "يفتقد للموهبة"، وذلك لأنه كان يلعب في ذلك المكان الخطر أيضاً. وقد كتب أجمل مقطوعاته التي لم يُعترف بها يومها، بسبب بساطتها التي تسمح لعازف عادي أن يقدمها، في زمن كان يعترف فقط بما لا يمكن فك رموزه وفهمه بسهولة. ينقل جون كايج عن إيريك ساتي الذي، كما براين إينو، لا يصف نفسه كموسيقي: "علينا أن نجد موسيقى كالفرش الموجود في المنزل، يمكن أن تكون جزءاً من ضجة المكان، وأن تأخذه في الحسبان، لكي تملأ الصمت الذي يقع بين مجموعة من الأشخاص يتناولون الطعام سوية، وأن تعدل من صوت الشارع (صوت الصمت الوحيد) والسماح له بالدخول إلى الحديث أيضاً".
 

يسرد براين إينو في إحدى المقابلات، قصة دخوله إلى عالم الآمبينت، والتي تظهر مدى الإرتباط بإيريك ساتي: "بعد إصابتي في حادث سيارة أدى إلى منعي عن الحركة، زارتني صديقة من أجل الإطمئنان. قبل رحيلها، وضعَت لي إسطوانة هادئة جداً لموسيقى آلة القيثارة Harp من القرن الثامن عشر. وقد أصبت بالإحباط لعدم قدرتي على القيام من أجل تغييرها. ما حدث في ذلك اليوم الماطر، هو أني بدأت أسمع صوت المطر مخلوطاً مع نوتات القيثارة الغريبة، والتي كانت عالية بما يكفي لسماعها فوق صوت المطر، وهذا ما حوّلها، إلى تجربة موسيقية متكاملة ورائعة بالنسبة لي. ألهمتني من أجل إنتاج نوع موسيقي، لا يفرض نفسه على المكان، بقدر تشكيله فضاءً مكانياً يمكن أن يكون الشخص منتمياً إليه". وهو تحديداً الفضاء المكاني الذي عُزفت فيه للمرة الأولى مقطوعة جون كايج "أربع دقائق وثلاث وثلاثون ثانية" (1952) التي تتألف من ثلاث حركات، يمكن أن تعزف بآلة واحدة أو بمجموعة آلات، ويطلب فيها من الموسيقي عدم عزف شيء طوال مدة المقطوعة.
 

وكما يمكن أن نقول عن موسيقى جون كايج وإيريك ساتي إنها إختزالية، يمكننا أيضاً وضع موسيقى براين إنو والآمبينت بشكل عام ضمن هذه الخانة. ما يجعل الآمبينت جزءاً من عالم أكبر من الموسيقى، وحتى أكبر من الفن نفسه، فالإختزالية صارت نمط حياة يُبشّر به عبر فيديوهات TED، مضادة للإستهلاك والبحث عن السعادة عبر شراء الأشياء. والعمل الفني الإختزالي هو عمل لا يسحب المتفرج بالقوة نحوه، ولا يقدم له عظات أخلاقية وبيانات وشيفرات لا يمكن فكها. وهو كل عمل فني لا يضخم السرد ولا يستعمل عناصر فوق الحاجة، ويمكن إيجادها في السينما التي لا تبالغ في التعبير والحوار، وفي الصور الفوتوغرافية التي تترك مجالاً للشخصيات الموجودة فيها، ضمن مساحات مكانية واسعة، وفي الروايات الأدبية قليلة الأحداث، لكن المليئة بالتفاصيل، وفي اللوحات البيضاء التي رسم عليها بالرصاص فقط أجزاء من أجساد.