حسام السراي يحلّق بقصيدة فوق نيويورك

منال الشيخ
الإثنين   2017/08/14
تجري القصيدة في رأسه بقدمين من معنى واضح.. أوضح مما هي على الورق
يتحركُ الشاعر العراقي حسام السراي، مواليد 1982 بغداد، في عالم الشِعر وفي قصائده بتؤدة وحذر يرتقيان إلى مستوى "الحِكمة" المبكرة في بعض الأحيان. بعد تجربته الشعرية في ديوانه المعنون "وحدهُ الترابُ يُقهقه"(دار الفارابي)، يعود السرّاي بتجربة شعرية جديدة بكتابه الموسوم "حَيُّ السَّمَاوات السَّبْع"(*) وهو عبارة عن قصيدة واحدة طويلة، تتخللها تخطيطات الفنان العراقي كريم رسن، والذي تولى تصميم الغلاف أيضاً. 

منذ افتتاحية القصيدة، سيشعر القارئ أنه يحلق مع قصيدة، لن تحطهُ قريباً على مستقر ما. تجربة السفر إلى نيويورك بحد ذاتها تبدو كقصيدة غير مكتوبة لمن ينظر إليها بعين شاعر. والسرّاي حاولَ حقيقةً أن يكون هذه العين التي ترى وتتأمل وتتذكر وتكتب. يغادر الشاعر مدينته بغداد متوجهاً إلى قارة أخرى، لم تمسسها نيران الحروب الشرق-الأوسطية، رغم تورطها المباشر فيها، لكنها نجحت في أن تعزل "العالم" الأميركي عن بقية العالم. أول ما يلفت نظرهُ، أو ما يريد أن يلفتَ نظرنا إليه، أن هذه البلاد لا تشبه البلاد التي كانت تحتل العراق. هنا، في مطار جون ف.كينيدي، المسمى على اسم الرئيس الأميركي "الأبيض" الراحل، حيث تستقبلهُ شرطية أميركية- أفريقية لفحص جوازه، يقفُ أمام سؤال العقل "العراقي"، الذي لم يغادره بعد، كيف للعقل أن يقبل حدود الإنسانية كي يمتحن الألوان؟
 
"قَدَماك في مَطار أبْيَضَ
اسْمُه
John F. Kennedy
وأوْراقُك بِيدِ شُرطِيةِ جَوازاتٍ مِنْ أفريقيا
لا حُدُودَ للعَقلِ كي يَمْتَحِنَ الألوان"

لا يكتفي السرّاي بتأمل 13 ساعة سفر بين بلاده وبين مانهاتن، لكنهُ يؤثر أن يبقى محلقاً حتى بعد أن يستقر في بناية شاهقة. ربما كانت نافذة واحدة مطلة من غرفتهِ في الأعالي، كانت كافية أن يرى المدينة كما وردت في الروايات والأحلامن حيث يتمازج صخب النهار بسكون الليل المفعم بالحياة. يعبّر الشاعر عن الصور التي مرت من قبل في مخيلته عبر الأفلام والأخبار وعبر الدليلة السياحية، لكن الدهشة سرعان ما تتلاشى في عينيهِ، عندما تمر صورة برائحة الجثث لم تُحذف بعد، رغم أنهُ حاول مراراً إخراجها من "العتمة"، التي في رأسه كي تحترق بضوء حياة مانهاتن  قبل أن تحفر ملامحها في وجههِ. 

"من البَعِيد الأبْعَد،
أصْواتُ أخشَابِ النُّعُوش،
وهي تَحُجُّ إليك مِن المُسْتَوطَنَةِ العظيمة
تطفئ كُلَّ هذه المَشَاهِد
وبَياضُ حرُوفِ القِماشَةِ المُسْتَطِيلَة
يَحْتَلُ الجُمْجمةَ بِمُفتَتَحٍ بَلِيغ
"وَلاَ تحْسَبَنَّ  الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه  أَمْوَاتاً بَلْ.."
تستمر صور الذاكرة بالعرض أمام عيني الشاعر أكثر، حتى تتحول إلى "فلاشات" مؤذية يحاول أن يستوعبها بتساؤلاتهِ وتأملاتهِ. فهو "العربي" القادم بهوية ما زالت تحمل خانة تعريف ديانتهِ، وهو الذي لم ينجُ من ملاحم الثأر، في إشارة منهُ للإرث الغريب الذي يحملهُ العراقي معهُ منذ ولادتهِ حتى مماتهِ، حتى لو لم يكن جزءاً منه.
 
"أنتَ الحَيّ لا تُوطِنُكَ البُلْدان
إلا لتَهُشَ  تُرابَ المَدافن عن وَجهك".
ولا يمكن المرور في مانهاتن من دون أن تستعيد ذاكرة الشاعر الشاب، تاريخ 11 سبتمبر 2001، الذي يعزو إليه بطريقة ما إلى كل الأحداث التي تعاقبت على العراق والعالم من بعدهِ. فيستمر في استداراكاتهِ، فيما يمضي الفنان كريم رسن، بالتخطيطات المتزامنة مع الاستدراكات المتعاقبة، وما لا يقولهُ السرّاي شِعراً في توقفاتهِ يكمله رسن رسماً.

تجري القصيدة في رأس السرّاي بقدمين من معنى واضح. لكنها ما أن تخرج من رأسهِ كي تصل شكل القصيدة المكتوبة، حتى تتعثر أمام الحبر، فيكون من الصعب على بعض الشِعر تشكيلهُ بالكلمات. وبعض الشعر يبدو نخبوياً عندما يكون عن ألم محصور وحصري لجماعة ما. استعارات الشاعر من أسماء ومصطلحات وتواريخ ومقتبسات، يلجأ إلى شرح بعضها في الهوامش، وتبقى أخرى رهينة المعرفة الشخصية أو اللجوء إلى البحث ليعرف القارئ ما المقصود بها. وهنا أتوقف قليلاً عند مدى أهمية هذه الجزئية في إيصال قصيدة ما! مثل ذكرهِ لجملة "يا عاصب الراس وينك"، ولا أظن أن القارئ غير العراقي أو غير المتابع للمشهد العراقي سيعرف أن هذا كان عنوان نشيد "داعشي"، يقال إنه تم قُبض على مؤديه خلال المعارك الأخيرة. وكذلك لن يفهم القارئ غير المطلع على سيرة الشاعر، أنه خريج كلية الهندسة، ولهذا ربط مشاهد "فلاش باك" غامضة من كلية الهندسة ببغداد، بأحداث 11 سبتمبر وأحداث الاجتياح الأميركي للعراق 2003. من أجل هذا تبدو القصيدة في بعض المواضع في رأس السرّاي أوضح بكثير مما عليه على الورقة البيضاء.

رغم هذه "العثرات القرائية" القليلة، إلّا أن القصيدة صرخة واضحة ضد مفهوم الانتماء القسري، إلى إرث لا يتقبلهُ عقل الشاعر، ورفض كل ما يُفرض على الإنسان لمجرد أنه وِلدَ بالصدفة في مكان ما. هنا، لا خطوط حُمر تستوقفهُ من إيصال رسالتهِ التي تحررت من داخلهِ بمجرد وصولهِ نيويورك. يقارن، ولا بد من المقارنة، بين حطام برجي مركز التجارة العالمي وبين حطام مجمع سوق في بغداد، حينما حصدت سيارة مفخخة مئات الأرواح قبل العيد بأيام. هو ذاته الزائر الأسود الذي يتبضع جنتهُ من عمر الأخرين، الغول نفسه الذي خلقناه وربيناه حتى صار من الصعب السيطرة عليه. فالموت إن طاول برجين أميركيين في يوم واحد، فهو يطاول العراقيين أينما كانوا كل يوم.

"السيّارات
تنفجرُ أينما كانت مركونة، القطط تتعوّد منذ شباط 2006 عَطَن أشلاء
علي وعمر ومن تلاهما من العراقيّين. الكلابُ تهرُّ معتذّرة عن سوءات جَلَبةِ
الشُّركاء في المنطقة الخضراء"
 
يخاطب السراي نفسه بصيغة الآخر على طول القصيدة، ما يجعلنا أمام مونولوج طويل ومسموع، وكأننا نخاطب أنفسنا. يصلُ صوتهُ أحياناً متكسراً بخيبة أمل يعيشها، يحاول أن يخرجنا منها باستنكار واقعهِ الذي التصق باسمهِ كعراقي. ولأنه غادر بغداد زائراً نيويورك لا لاجئاً أو مهاجراً، فهناك دائماً تذكرة عودة حزينة في انتظار من لا يرغب بالعودة. لكن الشعر الذي يواسي به الشاعر نفسه، كما الموسيقى، سلوان ساعات السفر الطويلة. وساعات العودة من "جنة" مانهاتن لا تُحسب إلى الوقت، بل إلى العمر الذي يفقد شيئاً من بريقه مع كل

فراق. 
لا تَبْتَئِس،
هذا عِيدُ مِيلادٍ فِي غَيرِ مَوْعِده
تَهِيمُ بِكِتَاب لهادي العلوي
عَن أحوالٍ وبَصَائرَ غَيرِ قَلِقَة
وتَطْرَبُ لأغنيةِ رَاهِبِ ألحَان
اسْمُه مَروان خُوري 
بإغْمَاضٍ لثَوانٍ،
وبِلا إشْفَاقٍ عَلى مَا كَان
تَحْرُثُ فِي أخْطَائِك،
طَلَباً إلى بَذْرَةِ التَطَهُّر
فَيَحِينُ مَوْعِدُ المُغَادَرَة

(*) صدر مؤخراً عن دار الرافدين في بيروت.