أدب الكيف..المعيار الاخلاقي والفلسفي

أحمد شوقي علي
الجمعة   2017/07/28
اللفظ المكسر الملحون (...) أكثر إدهاشًا وعمقًا مما يتطابق مع "المعنى المقصود"
قبل أن أعرف عن جلسات الحرافيش، وقبل أن أستمع لما حكاه بعض معاصري نجيب محفوظ عن تعرضه للنصب أكثر من مرة بينما يحاول شراء الحشيش، وهي المهمة التي غالبًا ما كان يوكل بها لآخرين قد يأخذون المال فيلوذون فارين به بلا عودة؛ امتدت يدي لـ"ملحمة الحرافيش". وقرأت في قصة المطارد "لم تتخل محاسن عن عنايتها التقليدية بجمالها ونظافتها. لم تشغلها الأمومة عن الأنوثة وحب الحب. وإلى ذلك ولعت بالحشيش حتى صار مزاجًا ملازمًا. جربته أول الأمر على سبيل المشاركة العابثة مع زوجها الذي يدخنه في بيته كل ليلة. خرّت بعد ذلك بين أنامله الناعمة الشرهة وهامت به"، وليس هناك مقطع أجمل من هذا لتقرأه فتقع في غرام السبيكة البنية، تلك الألفة وذلك التواطؤ الحميم بين محاسن وسماحة، يطلق مئات من التخيلات التي يمكن نسجها عن جلستهم المسائية تلك. أقارن الإسمين بمفعول "الكيف"، والذي يؤمن فالتر بنيامين أنه "يقنع الطبيعة لتسمح لنا- لأهداف أقل أنانية- بالإسراف في إنفاق وجودنا الذي نعرفه في الحب".

 

ثمة استهجان أخلاقي تجاه الرغبة في الانتشاء، ربما للخلط بينها وبين مرض الإدمان، أو لما قد يجلبه المخدر من أضرار صحية ونفسية تهدد متعاطيه، بالإضافة إلى تجريم الفعل دينيا واجتماعيًا، وربما يبدو ذلك مؤرقاً بالنسبة الي، إن صرحت بحب الحشيش بسبب كتابة فالتر بنيامين*، مثلما حدث لي سابقاً مع الحرافيش.

لكنني لست وحيدًا إن شعرت بالقلق تجاه مثل ذلك التصريح، فلعل الكاتب الألماني، الذي أبقى رغبته سرية، في تأليف كتاب مكتمل عن الحشيش، شعر بالقلق نفسه، بل ربما دفعه الخوف على سمعته إلى التردد في شأن إنجازه، حيث مات دون تأليفه، والذي ربما كان ليختلف بحسب المترجم هوارد إيلاند عن "المجموعة المتفرقة لبروتوكولات الحشيش والقطع المسلية التي نشرت بعد وفاته في عام 1972 تحت عنوان " Über Haschisch"، والتي ضمتها أعماله الكاملة التي نشرت لاحقاً في العام 1985.

لست في معرض الإشادة بالمخدر، ولا تساورني كذلك أية رغبات في تسويغ تعاطيه أو ترويجه لجمهور القراء -وهي بديهيات لابد من تأكيدها هذه الأيام للأسف-، لكنني أسير الإعجاب بأسلوب فالتر بنيامين، وتأملاته الطويلة في مسألة الانتشاء، والخيال الذي أثارته تلك العملية في ذهنه، والتفسيرات التي وضعها لوصف سلوكه أثناء تلك التجارب.

وفالتر بنيامين، وقع في حب الحشيش بعد أن انتهى من قراءة "فراديس" بودلير، حيث كتب إلى صديقه إرنست شن، في 19 سبتمبر أيلول من العام 1919، إنه " لقد قرأت أيضا الفراديس الاصطناعية لبودلير، إنها محاولة كتومة وغير موجهة لمراقبة الظواهر السيكولوجية التي تتجلى في نشوة الحشيش أو الأفيون، لما يمكنها تعليمنا فلسفيًا. سيكون من الضروري تكرار التجربة بمعزل عن هذا الكتاب"، الأمر الذي جعله لا يتردد في العام 1927، في الانضمام، كموضوع للاختبار، إلى الطبيبين إرنست جويل وفريتز فرانكل في تجاربهما العلمية حول تأثير المخدر، إلى جانب الفيلسوف إرنست بلوخ، والكاتب جان سلز، والطبيب إيغون ويسينغ، وزوجته جيرت، حيث جرب مخدرات مختلفة؛ أكل الحشيش، دخن الأفيون، وسمح بأن يحقن تحت الجلد بالمسكالين، وإيوكودال الأفيون. وهي التجارب التي أجريت في الفترة من عام 1927 وحتى 1934، في برلين، ومارسيليا، وإبيزا.

كان واضحا أمام فالتر بنيامين منذ البداية، أنه بصدد إجراء تجربة فلسفية في المقام الأول، لذا أطلق على نصوصه التي دونها عنوان "بروتوكول"، والتي لم تخرج في مجملها عن صياغة ميثاق للنشوة، ففي انطباعه الأول عن تعاطي الحشيش، يرى أن من بين ملامح تأثيره "الاتصال؛ التمييز"، والذي يتجلى في أنك "تشعر بأنك متميز لأسباب عديدة، أبرزها هو أنك وبشكل أساسي لا تنفذ إلى أي شيء بعمق غائر، وأنه مهما اخترقت عميقًا، تظل متحركًا على العتبة. نمط من رقص العقل على أصابعه"، فـ"الصور تحت تأثير الحشيش تقدم نفسها إلينا من دون أن تحتاج إنتباهنا. بالطبع قد ينتج عن هذه العملية إنتاج صور استثنائية، وخاطفة، ومتولدة بسرعة، لدرجة أننا لا نفعل شيئًا سوى النظر إليها ببساطة لجمالها وفرادتها".

وإن كانت هذه الحالة من عدم الرغبة في التورط تصيب متعاطي الحشيش، فإن حالة أخرى تلازمه –ظاهريًا- وتتبدى في عدم التركيز، لكن صاحب "شارع ذو اتجاه واحد"، يفسرها على أن "الشعور يشبه اتصالًا جسديًا مقطوعًا وله الخصائص التالية تقريبًا: ما نوشك على الحديث عنه يبدو جذابًا بشكل لا نهائي، نمد أذرعنا ممتلئين بالحب، شغوفين باحتضان ما نفكر فيه. لا نكاد نلمسه، إلا وقد خذلنا تمامًا: موضوع اهتمامنا يتلاشى عند لمس اللغة"، كذلك فإنه يفسر مسألة الشك الذي تعتري متعاطي الحشيش، باعتبارها من "باب التشابه، الذي لا يعني الكثير للوعي اليقظ، يحمل معنى لا محدودًا في عالم الحشيش. هناك، يمكننا القول إن كل شيء له وجه. لكل شيء درجة من الحضور الجسدي ما يتيح له أن يبحث عنه –كما يبحث المرء في وجه- عن صفات كهذه كما تظهر. تحت هذه الظروف حتى الجملة (دون الحديث عن الكلمة الواحدة) تتخذ وجها، وهذا الوجه يشبه وجه الجملة المقابلة لها. بهذه الطريقة تشير كل حقيقة بجلاء إلى مقابلها، وهذه الحال تفسر وجود الشك. تصبح الحقيقة شيئًا حيًا، تحيا فقط على الإيقاع الذي تزيح به الحجة والحجة المضادة بعضهما البعض لأجل أن تفكرا في بعضهما البعض".


خلال التجارب، وتحت تأثير حالة السكر، يصر فالتر بنيامين على أن "اللفظ المكسر الملحون (...) أكثر إدهاشًا وعمقًا مما يتطابق مع "المعنى المقصود"، فلا يكون غريبًا أن تجده في العديد من البروتوكولات يعيد صياغة أفكاره وتأملاته بشكل متكرر دون ملل، لكن اللافت حقًا في ما تضمه نصوص "عن الحشيش"، ليس فقط ما خطه بنيامين رسمًا وكتابة، وإنما كذلك في ما دونه مراقبو التجربة الذين أشرفوا على ملاحظته، والذي يكشف عن السلوك الظاهري الذي بدا عليه بنيامين. فكأننا أمام صورتين؛ الداخلي الذي يعتمر في رأسه، من خيالات في غاية الإدهاش وتفسيرات لأدق التفاصيل التي تحيط به، وبين السلوك الخارجي الذي ظهر عليه أداؤه، وهما صورتان متباينتان تماما، ففي إحدى التجارب يقول الطبيب فريتز فرانكل:"فجأة، يصيح موضوع الاختبار بأسلوب عسكري: "انتباه! قدموا الأقلام!" تتكرر هذه الطريقة في الحديث لاحقًا. يبدأ موضوع الاختبار بإظهار الثقة في المستحضر. يقول إن المستحضر مناسب لـ"التأرجح". هذه التركيبة تنم عن التقاء خطي أفكار: من جهة وصف لطبيعة كل مرحلة من مراحل التجربة، ومن جهة أخرى تعبير عن الشك المضطرد الذي يحتوي على "تأرجح" بين الإفاقة، والنشوة. (...) عودة الريبة، يعلن موضوع الاختبار أنه "لم يكن ثمة تأثير البتة". ثم بلهجة عسكرية مرة أخرى: "صفا" وينظر إلى كرة الورق ويصيح عليها: "تعال! أيها القردُ الصغير!" "القرد يتقرد". "تقرُّد، تقرُّدٌ، بعدي، تقرّدٌ قبلي". (...) ظهور أخير للريبة. يقول موضوع الاختبار، إنه لا آثار للمفعول، مع أن أشياء متعددة بدأت بتهيئة نفسها بطريقة تمكنني من الشعور بالمفعول".


تدخين الحشيش كما رآه فالتر بنيامين، حالة ملوكية، تتطلب "حوائج ملوكية تماما. فرساي لمن أخذ الحشيش، ليس كبيرًا جدًا، ولا الأبدية طويلة"، لكن تبقى رحلة تدخين الأفيون مع صديقه الكاتب جان سلز، أكثر تجارب الكتاب إثارة، حيث أخبره سلز عن السكينة التي يكسبها الأفيون لمدخنه بحيث تصيبه حالة من "اللياقة الصافية"، الأمر الذي شغفه بتجربته، فاضطرا إلى تهريب قطعة صغيرة منه إلى إسبانيا، ولأنهما لم يقدرا على تهريب الأدوات اللازمة لتعاطيه، قررا تفصيلها لدى حداد، ولأن الأخير كان يجهل مرادهما، اضطرا إلى إعادة تفصيلها أكثر من مرة، حتى تمكنا أخيراً من تدخينه، ليكتشف أنه "ليس من إجازة للأفيون أكثر شرعية من الوعي الذي يمنحه باختراق مفاجئ لعالم السطوح الباطني، المستغلق بشكل عام، الذي تكونه الزخرفة".


صدرت الطبعة العربية لكتاب "عن الحشيش" تأليف فالتر بنيامين، عن دار نشر "الكتب خان" في القاهرة، بترجمة سماح جعفر.