"دوغفيل" في جبيل

رشا الأطرش
الخميس   2017/07/27
لارس فون تراير: "الشر قد ينبت في أي مكان بمجرد أن يحظى بالظروف المناسبة"
رغم أنها ليست القصة الأولى من نوعها، فإن التقرير التلفزيوني الممتاز الذي أنجزه الزميل آدم شمس الدين في "تلفزيون الجديد"، احتفظ بقدرته على إحداث صدمة. فحتى اللبنانيين المتشبثين بعنصريتهم تجاه النازحين السوريين، باعتبارها حقّاً طبيعياً يُبرّر بالخوف على الأمن ولقمة العيش والموارد وما إلى ذلك من "أخطار الغرباء" التي لا سند منطقياً أو قانونياً أو عملانياً لها سوى في خيال مريض.. حتى هؤلاء، ربما أصيبوا بالوجوم لدى مشاهدة التقرير، ولو حتى لثوانٍ، قبل استنهاض ديناميات "الدفاع المشروع عن النفس" في وجه هذا "الغزو" الحضاري والاقتصادي. 

والحال إن العمل بالسخرة الذي فرضته بلدية غلبون في قضاء جبيل اللبناني، على النازحين والعمال السوريين، في مقابل "السماح لهم" بالبقاء فيها، وبحجّة التعويض عن عدم سدادهم الرسوم البلدية، سبقته أحداث كثيرة. ليس أقلها اعتداءات شرطة بلديتي عمشيت وجونيه على نازحين سوريين، وفرض حظر التجول عليهم ليلاً في العديد من المناطق، والمزايدة عليهم في حق "عودتهم" إلى قراهم السورية – قسراً إن لزم الأمر. بل إن العمل بالسخرة نفسه، سبق أن طُبّق فعلاً في بلدة ترتج الجبيلية. فيما تفتّق "حُكم" بلدية بكفيا عن فكرة فرض "رسم" بقيمة 100 ألف ليرة لبنانية، يستوفى كل ثلاثة أشهر، من كل نازح(ة) بدءاً من سنّ 18 عاماً، ومن كل عامل(ة) من النازحين ممن أتمّوا 15 عاماً من العمر. وذلك تحت شعار أنهم يستفيدون من مساعدات (الكل يعرف أنها أقرب إلى النكتة منها إلى سدّ الرمق)، ومع التجاهل التام لتعميم وزير الداخلية نهاد المشنوق على رؤساء البلديات اللبنانية بوجوب عدم استيفاء أي رسوم من النازحين السوريين، ناهيك عن أن هذه الضرائب العنصرية غير منصوص عليها في القانون، بل إن الرسوم البلدية القانونية تُفرض بشكل سنوي، وعلى العقار، لا على الأفراد.

***

عندما وصلت غريس إلى "دوغفيل"، هاربة من عصابة تطاردها، استقبلها أهل البلدة بتوصية من الشاب توماس إديسون جونيور، الذي كان قد نصّب نفسه الفيلسوف الأخلاقي المعتمد في البلدة. وقرر سكان "دوغفيل" أن يختبروا في "اللاجئة"، القيم التي لطالما أكدوا لفيلسوفهم أنهم يمتلكونها، وأنهم ليسوا في حاجة إلى "اجتماعات التسلّح بالأخلاق" التي كان يصرّ على دعوتهم إليها فيلبّونها على مضض. كانت غريس هي الهدية التي منحتهم نفسها، كتمرين عملي على إنسانيتهم. لعبة وتحدٍّ، علّهم بعدها يُعفَون من وعظات توماس. هكذا، تم الاتفاق على منحها أسبوعين لتثبت بأنها تستحق ضيافة "دوغفيل" التي ستجازف بإغضاب العصابة التي تلاحقها. لكن غريس لا تملك ما تقدّمه لأهالي "دوغفيل"، فيسألها توماس: "هل تمانعين الأعمال البدنية؟ لقد منحتك البلدة أسبوعين، والآن عليك تقدمي لها شيئاً في المقابل"...

هذه المعضلة الأخلاقية، التي ولّفها المخرج لارس فون تراير في فيلمه "دوغفيل" (2003- واختير واحداً من أفضل أفلام العقد الأول من الألفية الثالثة)، ليست سوى البداية. فهو أراد أن يذهب بالفرضية إلى أقصاها، لاعَب "الطبيعة الإنسانية" بتَركها على عواهنها، بلا كوابح، أو مقاومة مقابِلة. والتجربة، كي تنجح، تقتضي استسلاماً/تسامحاً كاملاً من "غريس" (نيكول كيدمان)، إزاء السجية البشرية المطلقة هذه. فهي ستغفر كل شيء، مهما كان. هي أيضاً تخوض تجربتها/فرضيتها الخاصة، بأن البشر سيكونون بشراً، ولا مردّ لكينونتهم الأمّ، وبالتالي لا يجوز محاسبة الإنسان/الحيوان على أنه منصاع لطبيعته وأنه لا إرادة فعلية له إزاءها مهما حاول.

وفيما تعاظم تقدير أهالي "دوغفيل" للمجازفة المرتبطة باستضافة الفتاة، تفاقمت المهام المطلوبة منها في المقابل، حتى بلغت الإذلال والعنف، وصولاً إلى العبودية الجنسية. وفي خلال ذلك كله، لم يتوان توماس عن إيجاد تبرير "أخلاقي"، أو بالأحرى "عقلاني براغماتي"، لابتلاءات غريس. كأن يرفض الاعتراف بأنه هو من سرق المال من والده لرشوة سائق الشاحنة كي يهرّب غريس، لكن السائق أخذ المال، اغتصبها هو أيضاً، وأعادها إلى "دوغفيل". تنصّل توماس من التهمة وتركها "تثبت" على غريس، بحجّة أنه لو اعترف، سيفقد "مصداقيته" ولن يعود قادراً على "حمايتها".. هي التي ينتهي لجوؤها إلى عيشها مقيّدة إلى سريرها بأصفاد، وذلك "لمصلحتها ومصلحة أهل البلدة". حتى توماس، أراد امتلاكاً جنسياً/غريزياً لغريس المكبّلة، لكنه تراجع لسبب واحد: أنها لن تستسلم له برضاها، بل إذا هددها كما فعل الجميع من قبله، فخشي أن يخسر مستقبله "كفيلسوف"، وامتنع عن رغبته. لكنه في الوقت نفسه بات، هو أيضاً، يراها خطراً عليه، وقرر التخلص منها بتسليمها للعصابة إياها.

أليس وارداً ههنا الزعم بتحقق الغاية الأصل، أي حماية المضيف لحياة الضيف بأي ثمن، كما نظّر لها ايمانويل كانط؟ لكن "غريس" كُبّلت واحتجزت ليتم استهلاكها. والشرّ، حسبما قال فون تراير في مقابلة صحافية، "قد ينبت في أي مكان بمجرد أن يحظى بالظروف المناسبة".

هكذا، انتهى فيلم/مختبر "دوغفيل" بأن أمرَت غريس أفراد العصابة، التي يتضح أن زعيمها ما هو إلا والدها، بقتل أهالي البلدة جميعاً، إلا الكلب الذي لم يهدأ نباحه، وعن حقّ اعترفت له به غريس دوناً عن الأهالي المرديين الآن بالرصاص: "فهو غاضب لأني ذات مرة سلَبتُه عظمَته".

***

الخطاب اللبناني السائد اليوم، إزاء النازحين السوريين، والمتزايدة عنصريته وتنميطاته، بمفاعيل معركة عرسال، ربما يمثّل الطبيعة البشرية الأولى، بخوفها من "الغريب"، ونزعتها إلى دفع شروط استضافته إلى درجة من التوحش تتلطى بمبررات الحماية، حماية الذات من الآخر، وحماية الآخر من نفسه (كما يراها المعتدي)، كيما يحظى بأمانه المنشود.

معلوم أن الخطاب هذا مطيّة للسيطرة. سيطرة زعماء الطوائف على مشاعر الطوائف، وسردية مظلوميتها الواجب تكريسها، وبالتالي تكريس ولائها الغريزي. وسيطرة رؤساء البلديات على نطاقاتهم ومنتسبيها، بقبضة حديدية تقع على رؤوس "مصادر الخطر المحدق بها"... وليس أسهل من جعل النازح السوري شمّاعة وحيدة لهذا الخطر المفترض مسبقاً، لضمان التفافة بالنوازع الأساسية، حول "القيادات المحلية" هذه، والتي في منتهاها، مع سواها من النخب الصغرى، تدعّم هيمنة القِمَم الطائفية والحزبية والعسكرية، في حلقة مفرغة.

لكن ترك الطبيعة البشرية لمداها، لكُليّة رغبتها الخام في السلطة والتسلط، وبالتالي لاكتمال دائرة الشرّ الذي تتحقق – هكذا – ظروفه، لن يؤدي إلا للموت. موت القانون، والدولة ضامنة حقوق المواطنين واللاجئين معاً. لتُبعث، على جثتي المدينة والاجتماع الحديث، دويلات البلديات حيث الغلَبة لغلبون.