سناء جميل "حبيبة ونسيبة كل المصريين" إلا أهلها والدولة

أحمد شوقي علي
الخميس   2017/07/13
كانت سناء جميل تعمل، إلى جانب دراستها المسرح، في تطريز المفارش
كأطفال درجنا نُحب سناء جميل، بالرغم من أنها لم تقدم خلال مشوارها الفني أي عمل موجه للصغار. وإذ نعي المعنى من وراء مشاعر الطفولة حين ننضج؛ أقولُ: أحببت "جميل" لا بسبب أدوارها الكوميدية التي شاهدتها صغيرًا، وإنما أحببتها لأنها لم تؤد أي أدوار مثالية؛ فالمثالية مخيفة لطفل، تمامًا مثل أستاذ الفصل غليظ القلب، وممجوجة بمثل الإرشادات؛ أي إرشادات، وأننا حين نكبر نرى المثالية مرتبطة بالخطابية، والخطابية تحمل قدرًا من الادعاء، والادعاء مرادف للكذب، والكذب مرادف للرياء، ولم تكن سناء جميل غير صادقة في كل أدوارها.

ويبدو أن هذه السلسلة من المثالية إلى الرياء، والتي تحاشتها الراحلة طوال حياتها، قد جاءت لتطاردها بعد وفاتها، فبالأمس نظم الكاتب الصحفي لويس جريس، أمسية للاحتفال بالذكرى الـ87 لميلاد زوجته الراحلة، في المسرح القومي، جاءت تحت عنوان بسيط وعاطفي في الوقت ذاته: "عيد ميلاد سناء"، وكان الحفل مقرراً أن يبدأ في تمام الساعة السابعة، وامتلأت قاعة المسرح بالضيوف في الموعد المحدد، وبينهم يجلس جريس نفسه وعدد من الفنانين والإعلاميين والمثقفين البارزين، من أمثال وزير الثقافة السابق جابر عصفور والممثل سيف عبد الرحمن والإعلامي محمود سعد والإعلامي مفيد فوزي وغيرهم، إلا أن الاحتفال تأخر عن موعد بدايته لأكثر من ساعة.

كان الوقت يمر مملاً في انتظار بدء الأمسية، فقررت تبديده بسيجارة خارج القاعة، وكان باب الاستقبال مزين بالورود بينما يقف تحته مدير المسرح الممثل يوسف إسماعيل، كمن يطمئن على أن استعدادات الاحتفال تجري بشكل جيد. وكانت الساعة قد اقتربت من الثامنة، أو ربما تخطتها بقليل، حين جاء المخرج خالد جلال، رئيس قطاع الإنتاج الثقافي في وزارة الثقافة المصرية، وما أن دخل -بعد استقبال حار من قبل "إسماعيل"- حتى بدأ الحفل.

بالطبع ساورني الشك في أن الانتظار لم يكن لاستكمال تجهيزات الفعالية، وإنما كان انتظار لحضور جلال، ممثل وزارة الثقافة، ورئيس يوسف إسماعيل بالضرورة، لكنني أثرت حسن الظن، فأبى إسماعيل إلا أن يؤكد سوء ظني حين افتتح الأمسية بتحية خالد جلال، قبل أي شخص آخر، ثم بتحية لويس جريس -الذي أخطأ في اسمه-، ثم جابر عصفور، قبل أن يوجه الشكر لحلمي النمنم، وزير الثقافة الحالي، والذي لم يحضر من الأساس. احتفالية في ذكرى ميلاد فنانة بحجم سناء جميل، تتأخر عن موعد انطلاقها لأكثر من ساعة من أجل حضور موظف! فأي عبث هذا؟
كان على لويس جريس، ذلك الرجل المفتون حبًا بزوجته الراحلة، والمخلص لذكراها، ألا يلجأ في تنظيم احتفال ميلادها، لدولة يتعامل موظفوها مع قيمة فنانيها بتلك الخفة وهذا الاستهزاء. أقدر صدق نواياه في أن يجد مكانًا أكبر من منزله ليتسع لكل محبيها، أو لعله أراد مكانا يصلح لعرض الفيلم التسجيلي، الذي أنتجه، والذي لولاه، أي الفيلم، ما كان للاحتفالية أي طعم أو قيمة.

جاء الفيلم، الذي حمل عنوانًا شاعريًا هو "حكاية سناء"، وأخرجته روجينا باسالي، رائعًا، ليس لقيمة مادته فحسب، وإنما لأن سناء جميل لم تفارق أيًا من مشاهده، وقد ضم، إلى جانب عرض سيرتها الذاتية (سردها ماجد الكدواني)، مشاهدًا نادرة من لقاءاتها التلفزيونية، وشهادات عنها، لكل من: لويس جريس، وسميحة أيوب، وجميل راتب، ومفيد فوزي، وبوسي، وفاروق الفيشاوي، وشريف عرفة، وطارق الشناوي، ومنى ذكي.

لا تملك سناء جميل، واسمها الحقيقي ثريا يوسف عطالله، المولودة في أسيوط في صعيد مصر عام 1930، قصة حياة عادية، بل قصة قصرت هي نفسها عن الإلمام بأسبابها، فمع بلوغها سن التاسعة، وبعد قدوم والديها إلى القاهرة، اصطحباها إلى "‬الميردديية‮"، وهي مدرسة فرنسية داخلية، ودفعا لها مصاريف الدراسة حتى الصف الثانوي، ثم اختفيا، لا يعلم أحد إن ماتا أو هاجرا، وظلت سناء في عزلتها الدراسية، حتى اهتدت لخالة لها تسكن بالقرب من مدرستها، وهي التي عاشت بصحبتها بعد أن أنهت تعليمها الثانوي، والتقت عندها بأخيها الأكبر، ولحبها التمثيل رغبت سناء جميل في الالتحاق في معهد الفنون المسرحية، لكنها أمنية واجهت رفضًا من أسرتها الصعيدية المتشددة، وانتهت بطردها من المنزل بعد أن صفعها أخوها صفعة أدت إلى فقدان إحدى أذنيها للسمع، حسبما يروي لويس جريس في الفيلم.

خلال تأديتها لاختبار القبول في المعهد، جهزت سناء الجميل، التي لم تكن تتقن العربية، مشهدًا من مسرحية كليوباترا، بعد أن دونت نصه العربي باللاتينية كي تستطيع نطقه أمام لجنة التحكيم، التي كانت تضم فيمن ضمت المسرحي زكي طليمات، وحين طلب منها الأخير أن تؤدي مشهدًا آخر من النص، لم تستطع وظنت أنها رسبت في الامتحان، لكنها قُبلت، وتبنى طليمات موهبتها الفنية، وكان سببًا في ما بعد لأن تتقن اللغة العربية، كذلك ساعدها في أن تجد سكنًا في منزل المغتربات بعدما طردها أهلها، وتحكي سناء جميل عن تلك الفترة أنها لم تمكث كثيرًا في بيت المغتربات، وأن طليمات ساعدها أيضًا في أن تحصل على سكن خاص بها، وأنها لما ذهبت لتشتري أثاثًا لشقتها الجديدة، اشترت سريرا وحلة وموقدا لكن أموالها نفدت قبل أن تشتري مرتبة لتنام عليها، فاضطرت لأن تفرش ملابسها فوق السرير للنوم مما تسبب في إصابتها لاحقًا بانزلاق غضروفي، وهي لاتزال شابة.

كانت سناء جميل تعمل، إلى جانب دراستها المسرح، في تطريز المفارش وتفصيل الثياب، وهي الهواية التي لازمتها حتى بعد احترافها التمثيل، ويحكي الناقد السينمائي طارق الشناوي، أنها ذهبت بعد أن تزوجت من لويس جريس إلى منزل إحسان عبد القدوس، وبينما هم يتناولون العشاء لمحت أول حرف من اسمها الأول والثاني منقوشين على مفرش السفرة فعرفت أنه من صنعها، وأصرت أن تأخذه لدى مغادرتها منزله. ويحكي الممثل هشام سليم في حوار سابق، أن سناء فصلت ثيابها بنفسها لدورها في مسلسل "الراية البيضاء"، الذي كانت تؤدي فيه شخصيتها الشهيرة "فضة المعداوي".

امتلأ شريط الفيلم بشهادات من زاملوها عن عفويتها وصدقها وجرأتها وسرعة بديهتها واحترامها لزملائها خاصة الوجوه الشابة منهم، وإن كان المشاركون في الشريط التسجيلي قد صمتوا عن الإشارة إلى تلك الميزات التي امتلكتها سناء جميل، لتحدثت الصورة عن ذلك، فقد بدت غاية في العفوية والصدق خلال الأجزاء التي تضمنها الفيلم من لقاءاتها التلفزيونية، ففي أحد هذه المشاهد تشير سناء إلى أذنها اليمنى التي تحتوي على سماعة لتحسين قدرتها السمعية، بينما تصف نفسها بأنها "طارشة"، وفي مشهد ثان تتحدث عن سنها الحقيقي، وعن ضرورة أن يفتخر الفنان بسنوات عمره التي عاشها بدلا من إخفائها، وفي آخر وهو الأكثر طرافة، يستضيفها مفيد فوزي في حوار، وبينما يتحدثان يظهر فوزي وهو يأكل اللب بينما يلقي بقشره إلى الأرض، فتمد سناء جميل يدها كأنها تكنس الأرضية وتحمل القشر قبل أن تشير له بأن يلقي به إلى الطبق الفارغ الموجود أمامه على الطاولة.

لكن هذا الصدق وتلك العفوية، بالإضافة إلى سطوع نجمها وتطور نظرة المجتمع إلى الفنان، لم تشفع لها عند عائلتها التي حافظت على قرار مقاطعتها إلى أن وافتها المنية، حتى أن زوجها أبقى على جثمانها في المستشفى ثلاثة أيام ليعطي فرصة لأي أحد منهم كي يظهر لحضور مراسم دفنها، لكن أحدًا لم يحضر، وربما كانت سناء جميل مدركة لذلك الأمر، حيث إنها أوصت لويس جريس، قبل وفاتها، أن يكتب في نعيها "سناء جميل حبيبة ونسيبة كل المصريين"، وهو النعي الذي أتمنى أن يعمل الأستاذ لويس بوصيته، فيتيح هذا الأرشيف الضخم الذي يمتلكه من صور وتسجيلات نادرة على الإنترنت، حتى يكون يسيرًا على محبيها الوصول إليه، بدلًا من أن تنتقل وسيلة الاطلاع عليه إلى يد دولة لا تكن اهتمامًا حقيقيًا بمبدعيها.