في وداع نينوى

منال الشيخ
الإثنين   2017/07/10
الحرب مرّت من هنا
حتى الآن لا أعرف كيف أتوصل إلى كلمة أو عبارة مناسبة لتوصيف حالة الهبوط الاضطراري في الأحشاء. ذلك الشعور بشيء ما يتسرب وينسل من داخلك مُحدثاً خدشاً مؤلماً في طريقهِ للخروج، يسلب وجودك، ولو بشكل مؤقت، من الحياة. ذلك الشعور الذي لا يمكن القبض عليه أو حتى سجنهِ في كلمة أو عبارة. ليس حالة هلع وليس شعور "الفَراشات في المعِدة"، لأن الأخيرة يمكن أن تعني الإثارة بشكل إيجابي. إنها لحظة فقدان التوازن من كل شيء واستعارة ذيل سمكة لا تعرف كيف تستخدمها في البر بدلاً من ساقين. شعور بانعدام الجاذبية والالتصاق بواقع مُرّ في آن واحد. إحساس بالسجن مع مشاعر، كل همك أن تستطيع وصفها أو التعبير عنها، لكنك تستمر في البحث عن مفاتيح سجنك بلا جدوى. ربما يأتي أحدهم باقتراحات عديدة لوصف الحالة، اطلعتُ على أغلبها، لكنها لم تقنعني وأنا أحاول منع نمو زعانف لي بدلاً من اليدين، فماذا أفعل بقلب سمكة تتنفس غبار الدم على اليابسة بدلاَ من الأوكسجين المذاب في الماء؟! 

هذا هو شعوري مؤخراً كلما صادفت اسم "الموصل" في خبر أو تعليق. كنتُ في آخر مقال لي، قد تأملتُ ألا أعود إلى الكتابة عن الموصل/ نينوى مرة أخرى. لكن الأمور لم تنته ولن تنتهي على خير كي ننسى ونتخطى كل ما سبق. ليس تشاؤماً ولا نيلاً من إنجازات "القوات المشتركة" في طرد داعش من المدينة، بل استقراءً للواقع الواضح لها..

القوات والحكومة العراقية تعلن انتصارها الكامل على داعش في المدينة. تصفية جميع الدواعش من المدينة القديمة -هل بقي هناك مدينة قديمة نتحدث عنها، بعدما تساوت الأحياء كلها بالخراب والدمار؟! رئيس الوزراء العراقي الدكتور العبادي يصل الموصل ويمهد لمباركة الشعب العراقي بالنصر الكبير. ينشر أحد الإعلاميين المعروفين مقاطع فيديو نشرها داعش عن تصفية المدنيين عبر القناصة المنتشرين على أسطح المباني أثناء محاولتهم الفرار. تذكرتُ بعض أقاربي الذين ماتوا بالطريقة نفسها، ربما كان أحدهم ضمن ضحايا الفيديو ولم أتعرف عليه، وكيف للنصر العظيم أن يضمد جراح الفقد. بدأت التبريكات والمنشورات تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، بين مبارِك للنصر العظيم وبين شامت، كالعادة، وبين محرض على تصفية كل من يُشك به أنه داعشي أو موالٍ لهم. نشرَ أحدهم قصة عائلة موصلية عانت بطش جماعة "داعشية" قادمة من محافظة ديالى. القصة كانت مؤلمة بكل تفاصيلها وكيف مات رب البيت من الجوع وهو المعروف بكَرَمه. رغم غاية المنشور من التنبيه إلى أن معظم الدواعش من المدن المجاورة أو أخرى، ورغم أن المنشور احتوى على تحريض واضح، وليس ضمنياً، على سكان مدينة بعينها، إلا أن هذا لا يمنع من الوقوف أمام "حقيقة" أن بعض قيادات داعش كانوا من سكان الموصل الأصليين، ومنهم من شغل مناصب مستشاري الشرعية والطاقم الطبي. غالبيتهم كانت من العسكريين القدامى الذين فقدوا مناصبهم ومراكزهم بحل الجيش العراقي مع قدوم بول بريمر، الحاكم المدني، إلى العراق إبان الاحتلال الأميركي، والبعض الآخر ممن استرزق من الخطاب الديني المدعوم من جهات خارجية، ومعظمهم من الطبقة المتعلمة والمثقفة.

هذه ليست المرة الأولى التي تُثار فيها نقطة لا بد من التوقف عندها، عن "نوعية" عناصر داعش وطبقاتهم وثقافتهم. فقد أُثير في ما سبق عبر نشر قصة، فردية أيضاً، عن طبيب وطبيبة من الموصل تعاونا مع داعش بل زوّجا بناتهما لعناصره! رغم أن أكثر ضحايا القاعدة/داعش كانوا من الأطباء وأساتذة الجامعة حيث تم تفريغ المدينة منهم إما بالقتل أو التهجير القسري.
كل هذه القصص لم تثر اهتمامي ولا استغرابي، فمن عاش الواقع وتابعه عن كثب ليس كمن سمع به. وكلما عثرت على إحدى هذه القصص وما يتبعها من استنكار وتعجب، يخطر في بالي تساؤل: هل يعقل أن الحكومة والمسؤولين، أو حتى العامة، لم يكونوا على علم بحال المدينة وما آلت إليه الظروف والتطورات؟ هل نسينا تفاصيل وحيثيات عملية "لواء الذيب" (هكذا تنطق باللهجة العراقية) العام 2005، كيف بدأت وماذا أنتجت من فشل وتدهور الأحوال بعدما أفق عليها ملايين الدولارات؟

لو أردنا فهم ما يحدث الآن ولماذا تعود "القاعد، جبهة الإسلام، جيش الإسلام، البعثيون وعزت الدوري، ثوار العشائر، وأخيراً داعش"، كل مرة بتشكيل جديد وتحت مسمى آخر، علينا أن نعود بالتاريخ إلى تلك العمليات، وأقصد عمليات "لواء الذيب"2005 وقبلها معارك الفلوجة التي تبعتها معارك مدينة تلعفر بمعية قوات الاحتلال وحكومة أياد علاوي.

إنهُ تاريخ طويل من المماطلة في التعامل مع الواقع بجدية والذي أوصلنا إلى هذه المرحلة الدامية. كان بالإمكان تجنب هذه الدماء لو تعامل القائمون على السلطة والإدارة بحكمة وعقلانية وأكثر حِرفية، بعيداً من المحاصصة الطائفية والمناطقية منذ العام 2004. التاريخ لا يعيد نفسهُ، هو يعيش ويطور نفسه. لم نغلق الكتاب يوماً على ملف الإرهاب. ولا أعتقد أن معارك الموصل وتحريرها ستغلقه.

- أزمة سُنّية أم سياسية؟!  
حتى وقت قريب كانت الغالبية، من النخبة المثقفة والسياسيين، تتحاشى الحديث بشكل مباشر عن وجود أزمة هوية "سُنية، شيعية أو كردية"، دون الطوائف الأخرى، باعتبار أن هؤلاء الثلاثة يمثلون غالبية الشعب العراقي والبقية "أقلية" بحسب مفهوم التصنيف سياسياً. أما الآن، فقد أصبح الحديث عنها بشكل علني ومكثف حتى لو لم يكن مباشراً. مجرد تسمية الأزمة الدائرة بتصدع "الصف السُني" هذا يعني أن الأوساط أخيراً توصلت لحقيقة لطالما أنكرتها، هي وجود أزمة "سُنية". لكن ما هي الأزمة السُنية حقيقةً؟ ولماذا التركيز عليها الآن سواء من قبل الكتل غير السُنية أم السُنة أنفسهم؟ وهل حقاً هناك أزمة "هوية سُنية" أو تصدع في الصف السُني كما يشار إليه؟ وما هو مفهوم الهوية السُنية التي يتحدثون عنها؟

كل هذه الأسئلة لا تخطر في بال المتجادلين والمتناحرين على الدوام حول ما يسمونهُ "المظلومية الشيعية" و"التهميش السُني". لا أحد يسأل ما الذي تقصدهُ هذه التصنيفات وفي مصلحة من تصب. لا يخفى على الجميع أن أزمة الطوائف والمذاهب قائمة في العراق منذ كربلاء وقبلها. وليس سراً، أو خطآً، أن تكون معارضة صدّام حسين من الغالبية الشيعية. فهذا أمر طبيعي أن تكون المعارضة من غير "جنس" الحاكم، سواء سياسياً أو فكرياً أو مذهبياً وأثنياً. في دولة لم تكن يوماً علمانية أو ديموقراطية متقدمة، ولن تكون، ليس من المستغرب أن تكون "المعارضة" بهذا الشكل على مرّ التاريخ. جدال الحكم السُني والحكم الشيعي في التاريخ الحديث كان قائماً منذ تخطيط "الخاتون" جيرترود بيل أو مس بيل، كما كانت تُعرف، في انشاء الدولة العراقية ثم تقسيم إقليم كردستان بين الدول المجاورة. وَرَدت النظرة الغربية عن الحكم في العراق، التي تكاد تكون مشابهة لنظرته الآن، عبر رسائلها التي جُمعت في كتاب صدر في ما بعد. لم يكن عجباً ما أوردتهُ مس بيل عن واقع العلاقة "الشيعية- السُنية" في العراق، فقد ولدنا على حكايات متبادلة، كمثال، عن جسر"الأئمة" الذي يربط الرصافة بالكرخِ. من يعرف أصل الجسر والقصص المحاكة عنه وعن تسميته، سيعرف حتماً كيف نشأت الأجيال المتعاقبة في ظل ثقافة التمييز والتعصب االمذهبي.

لماذا نعود الآن إلى ذكر حكاية الجسر وسبب التسمية ورسائل مس بيل عن العراق، إن صحت الأخبار المتواردة عبر المؤرخين؟ لأننا لم نقف أمامها بجدية يوماً.

في الأيام القليلة الماضية، لفت نظري حدثان إعلاميان أثارا ضجة في الوسط. أحدهما يسمى بمقال كتبتهُ سيدة سعودية عن جزيرتي تيران وصنافير المصرية. والآخر مقال للكاتب السوري صبحي حديدي عن "انتصار الموصل" في جريدة "القدس العربي". سيسأل البعض ما الرابط بين "المقالين" إن جازت تسميتهما بذلك. من جملة الردود على مقال السيدة السعودية، لفت نظري رد من سيدة مصرية تشرح فيه معنى اسم عائلة السيدة كاتبة "المقال"، وإلى أي مذهب تنتمي. تختم تعليقها بسؤال مصاغ على أساس التورية، لكنه واضح إلى درجة أنك لا تخطئ القراءة بصياغة السؤال: لماذا تكره هذه الطائفة مصرَ!

أما مقال حديدي، فهو لا يعدو كونه تدوين لحظة "فوران" وتشنج، يبدو بسبب الأخبار المتواردة عن هزيمة داعش الفعلية في الموصل. ركز حديدي في مجمل مقاله على التشكيك في ماهية "الإنجازات" التي حققتها القوات العراقية المشتركة، مضيفاً معلومة تكاد لا تكون صحيحة تماماً، بأن داعش ما زال يسيطر على مدن عديدة! وأكد في مقالهِ "موتور النبرة" والمتعجل في الحكم، على حال السُنة وإنهُ لن يكون أفضل حتى لو تخلصوا من داعش، الذين كانوا من ضحاياه كما أورد! وفي الجزء الأول من مقال الحديدي ستلمس "تمجيداً" لا يقبل الخطأ في فهمهِ عن "انجازات" داعش ومباغتته دائماً "الحشد الشعبي" في الدقائق الأخيرة، إذ يختصر حديدي تواجد القوات العراقية في الموصل بـ"الحشد الشعبي" فقط. مع العلم أن "الحشد" لم يدخل المدينة إلا مؤخراً وبرغبة من الجيش النظامي لحساسية الموقف. يعود ويربط ما يحدث في الموصل بالتواجد الإيراني المتمثل في شخص الجنرال سليماني وعناصر ميليشياته وأن هدفهم من الموصل هو الوصول إلى اللاذقية!

تأملتُ الحالتين اللتين تعاقبتا خلال أقل من أربعة أيام، وكيف أن معركة الموصل وقضية تيران وصنافير كشفتا الكثير عما كنا نتغاضى عنهُ. يبدو أننا كنا نفضّل العيش في حالة الإنكار، على الاعتراف بواقع مرير كان سبباً رئيسياً في الخراب الذي لن يُعمر قريباً.

هل حان الوقت لنقف على جسر الأئمة، وعند رسائل مس بيل، ونسمي الأشياء بمسمياتها؟! 


* كان أول مقال نشرته في صحيفة "المدن" الكريمة في العام 2015، بعنوان "هل حان وداع نينوى؟" إثر سقوطها الأول. هذا مقال أخير في وداع نينوى، سياسياً، بعد إعلان "الانتصار العظيم"، وهي التي لم يعد يربطني بها شيء سوى الأسئلة المطروحة أعلاه من أجل ما تبقى لدينا من انسانية.