"عاش هنا".. دائرة معارف حية لأعلام مصر

أحمد شوقي علي
الإثنين   2017/07/10
لا ينشغل المشروع بتحويل أماكن سكن هؤلاء الأعلام إلى متاحف حية..
هل تُعرف الأماكن بناسها؟ أم يعرف الناس بالأماكن؟ يتبادر السؤال إلى الذهن لدى رؤية تلك اللافتة من المعدن النحاسي والخشب، المكتوب عليها بخط منمق "عاش هنا"، وتحمل اسم علم بارز، سكن ذلك المنزل الذي تتوسط جداره، والتي لا تحيل بالضرورة لتحول ذلك العقار إلى متحف يضم مقتنياته الشخصية، وإنما تكتفي –غالبًا- بتوثيق مقر سكنه.

في الأيام القليلة الماضية، بدأ جهاز التنسيق الحضاري المصري، المعني بالحفاظ على الطابع الحضاري للمدن، بوضع عشر لوحات كمرحلة أولى تجريبية من مشروع "عاش هنا"، الذي يسعى للتعريف بالاعلام الذين أثروا في الحياة الثقافية المصرية وبالأماكن التي سكنوها، حيث وضع الجهاز عشر لافتات على منازل: (نجيب محفوظ، والمفكر زكي نجيب محمود، والكاتب أحمد بهاء الدين، والمعماري علي لبيب جبر، والمعماري رمسيس ويصا واصف، والملحن عمار الشريعي، والملحن سيد مكاوي، والشاعر فؤاد حداد، والفنان يوسف وهبي، والصحافي محمد التابعي)، تتضمن اسماءهم باللغتين العربية والإنكليزية وتاريخي ميلادهم ووفاتهم، بالإضافة إلى كود رقمي (QRL) يُمكن الهواتف الذكية من الانتقال إلى السيرة الذاتية لكل علم على حدة.

ويوضح المهندس عمرو السيد، المدير التنفيذي للمشروع، في تصريح لـ"المدن"، أن "عاش هنا" ينفذ على مرحلتين، الأولى انتهت، وتضمنت إنشاء قاعدة بيانات على الإنترنت، أنجزها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، وتضم السير الذاتية والمنجزات العملية لنحو ما يزيد عن مائتي شخصية بين فنانين وعلماء وسياسيين ومفكرين مصريين، بالإضافة إلى التركيب التجريبي لعشر لافتات وربطها بقاعدة البيانات تلك.
أما المرحلة الثانية، بحسب "السيد"، فيجري العمل على تنفيذها خلال الفترة المقبلة، بتركيب باقي اللوحات.

ويقول المهندس محمد أبو سعدة، رئيس جهاز التنسيق الحضاري، لـ"المدن"، إن المشروع يسعى لصياغة ما يمكن تسميته بـ"ذاكرة الوطن"، وتكمن أهميته في الخدمة المعرفية التي يقدمها، والتي لا تسعى للإخبار فقط بسيرة العلم الذاتية، وإنما تتضمن كذلك أرشيفًا لمنجزه الإبداعي، وصورًا من حياته الشخصية، وأجزاء من أعماله سواء كانت فنية أو أدبية أو علمية". وأوضح أن المشروع نتاج لبروتوكول تعاون وُقع بين الجهاز ومركز معلومات مجلس الوزراء، اللتين تمولانه تمولانه، حيث يضطلع المركز بتصميم وإنشاء قاعدة البيانات، فيما يصمم جهاز التنسيق الحضاري اللوحات وينفذها، ويحدد الأماكن التي عاش فيها هؤلاء الأعلام من خلال مهندسين، ووضعها على الخريطة بنظام GPS، ليتمكن المركز من ربطها بالموقع الإلكتروني.


ووقع التنسيق الحضاري بروتوكولا مع مركز المعلومات في 29 نوفمبر من العام الماضي، لكن مشروعه ليس الأول الذي يحاول التعريف بأماكن إقامة الفنانين والأدباء، حيث كانت لجنة حفظ التراث التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للفنون، قد احتفلت في بداية شهر نوفمبر من العام الماضي أيضًا، بهدف تكريم ما أسمتهم "فناني الزمن الجميل"، وذلك بتعليق لوحات رخامية على منازلهم، تحمل عنوان "هنا عاش"، وهي الصيغة نفسها -وإن كانت معكوسة- للمشروع الذي تتبناه الدولة المصرية، ولكن محمد أبو سعدة ينفي وجود أي تشابه بين المشروعين، وينكر معرفته بمشروع الأمم المتحدة، أما المهندس عمرو السيد، والذي يشرف على العمل الميداني لتركيب اللوحات، فيشير إلى وجود اختلاف جذري بين المشروعين، سواء في التصميم أو الأهداف، حيث تركز مشروع الأمم المتحدة على نطاق الممثلين فقط، وبيوتهم التي سكنوها في محيط وسط القاهرة، بينما يهتم مشروع جهاز التنسيق الحضاري، بحسب عمرو، بالأعلام المصرية الذين أثروا الحياة الثقافية في المجالات كلها سواء العلمية أو الفكرية أو الفنية، كذلك لا يحمل مشروع "حفظ التراث" الذي هو عبارة عن لوحة رخامية تحمل اسم الفنان، أي معلومات إضافية عن حياته، بخلاف مشروع "عاش هنا" الذي يحتوي على الكود الخاص بالسيرة الذاتية الكاملة لصاحب السكن.


ويوضح رئيس جهاز التنسيق الحضاري، أن السير الذاتية للشخصيات، جمعتها وصاغتها لجنة ضمت في عضويتها أساتذة تاريخ وسينمائيين وتشكيليين، مثل: وزير الثقافة الأسبق والمؤرخ د.عماد أبوغازي، والمؤرخ د.محمد عفيفي، والناقد السينمائي علي أبو شادي، والكاتب خالد الخميسي، مدير مكتبة القاهرة الكبرى.

وتعمل تلك اللجنة أيضًا على اختيار الشخصيات الذي سيتضمنها المشروع، وقال، إنها "تعمل ضمن خطة منهجية للأرشفة والتوثيق المعماري، وتوثق الأعلام وفق فروع، كالفنون والعمار والموسيقى، وطبقًا للمراحل الزمنية والمدارس الفنية والفكرية المختلفة".

وعن آلية عمل اللجنة، يقول أحد أعضائها لـ"المدن"، إنها وظيفتها تتركز في مراجعة المادة العلمية الخاصة بسير الأعلام، كما تقترح بعضهم وتناقش مقترحات الجهاز بالنسبة للبعض الأخر، وهو الاختيار المحدد بنطاق الأعلام الذين رحلوا عن عالمنا فقط، فيما يتسع ليشمل مجالات الإنجاز العلمي والإبداعي المختلفة، حيث "نختار من بين سياسيين وعلماء وباحثين وفنانين وأدباء واقتصاديين وأكاديميين".

ويوضح أبوسعدة، أن المشروع لا يستند في اختياره للمنازل التي ولدت وعاشت بها تلك الشخصيات في بداية حياتهم، وإنما يستهدف الأماكن التي شهدت تحققهم عمليًا، وواكبت ميلاد مشاريعهم الفنية والفكرية، ولا يعني ذلك أن المشروع سيركز على الأعلام التي سكنت العاصمة فقط، وإنما يمتد إلى عدد من المحافظات الأخرى كالجيزة والإسكندرية وغيرها، كاشفًا أن المرحلة التالية تستهدف توثيق أماكن السكن لفنانين، مثل: ليلى مراد، ورياض السنباطي ومحمد عبدالوهاب ومحمد فوزي وسعاد حسني، وغيرهم. ومشيرًا إلى أنه لا يوجد تاريخ محدد للانتهاء من إنجاز المشروع، ولا عدد محدد للشخصيات، فربما "يكون جدولنا الزمني ونطاقنا الجغرافي مفتوح ومتسع باتساع العدد الكبير الذي تضمه مصر من مبدعين ومفكرين في عصرها الحديث، ولكننا نسعى للعمل بسرعة لأن هناك بعض الأماكن التي حددناها، ولكنها تهدمت للأسف، وبالتالي نسعى للوصول إلى الأماكن المرصودة في أسرع وقت ممكن لحمايتها، وإدخالها في نطاق المشروع".

ربما تبدو فكرة توثيق أماكن سكن الأعلام، جديرة بالاهتمام في حد ذاتها، ولكنها قد تبدو ناقصة من وجهة أخرى، فقد يزيد من عمق ما ترنو إليه أهداف المشروع، تحول تلك العقارات إلى متاحف شخصية تضم مقتنيات العلم وإسهاماته العملية، لكن الأخيرة تبدو خارج اختصاص الجهاز، الذي تتلخص أهدافه في "تحقيق القيم الجمالية للشكل الخارجي للأبنية والفراغات العمرانية والأثرية وأسس النسيج البصري للمدن والقرى وكافة المناطق الحضارية للدولة، بما فى ذلك المجتمعات العمرانية الجديدة"، بالإضافة إلى صعوبة تنفيذ الفكرة بشكل كامل، نظرًا لأن بعض هؤلاء الشخصيات كانوا مستأجرين لأماكن إقامتهم ولم يملكوها، ما يعني عودتها لمالكيها الأصليين من أصحاب العقارات بعد وفاتهم، الأمر الذي يؤكده أبو سعدة، قائلا: "لا ينشغل المشروع في المقام الأول بتحويل أماكن سكن هؤلاء الأعلام إلى متاحف حية، فبعض تلك المنازل لم تعد تخص ساكنيها القدامى، وبعضها الآخر متاحف بالفعل مثل متحف أحمد شوقي وضريح سعد زغلول ومنزل عبدالحليم حافظ وغيرها، هدفنا الأساسي صنع دائرة معارف في الشارع، تخبر المارة العاديين بماهية من سكنوا تلك العقارات".

ربما يشكل المشروع في إطاره العام، متحفًا آخر أكبر اتساعًا من معرض لمقتنيات أحد المشاهير، متحف يتحول فيه العلم ومقر سكنه إلى معروضين يملكان الأهمية نفسها، الأمر الذي يصبح معه السؤال من المهم؛ المكان أم الشخص الذي سكنه؟ غير ذي جدوى، فمع تأمل الخريطة التي وضعت عليها العشر لافتات التجريبية الأولى، والتي تنتشر جغرافيًا بين محافظتي القاهرة والجيزة، ستحل أسئلة أخرى محل السؤال الأول، عن مركزية الثقافة المصرية، وعن الذاكرة الجمعية، والطبيعة الاجتماعية لطبقات الشعب المصري، والوضع الاقتصادي الذي مكن شاعر أو أديب من سكن هذه المنطقة أو حرمه من السكن في أخرى، وعن التغير الحضاري والجغرافي الذي حدث للأحياء المصرية العريقة والشعبية، وغيرها من الأسئلة الكثير.