5 حزيران... ذاكرة الهزيمة والعقل التخريفي الغيبي

محمد حجيري
الأحد   2017/06/04
فقد فسّر بعض المتديّنين الاسلاميين الهزيمة على أنها "عقاب إلهي"
بعد نصف قرن على هزيمة 5 حزيران 1967، لا أعرف ما الذي يمكن قوله الآن وسط الحريق الداعشي والهزائم المتراكمة وتنامي صراع الهويات المذهبية والأدوار، كتب الكثير عن "زلزال" أو "نكسة" 1967" أكثر مما كتب عن انهيار الاتحاد السوفياتي، سواء في التحليل أو النقد الذاتي أو الرد الأدبي الثقافي، ولعل أخطر ما حصل بعد الهزيمة، عدا تنامي الاستبداد السياسي العربي واحتلال كامل اراضي فلسطين وأجزاء من سوريا ومصر ولبنان والاردن أو "دول الطوق"، هو ذلك "الوعي" التخريفي والغيبي الذي برز على الملأ، وبوقاحة، سواء في خطاب السلطة او حتى المجتمع والأحزاب، هو الوعي الممزوج بالحقد والشماتة والهذيان...


فقد فسّر بعض المتديّنين الاسلاميين الهزيمة على أنها "عقاب إلهي" بسبب عدم التزام المجتمع بالتعاليم الإسلامية، وكان من بين هؤلاء الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي سجد شاكراً الله على الهزيمة لأنها، كما قال، قد بيّنت زيف الحكم المصري وادعاءاته وقتها؛ وفي موقف آخر يقول سجدت لله شكرا في نكسة 67 لأننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية لاننا كنا سنفتن"، واعتبر الملائكة هبطت من السماء ودحرت قوات الإلحاد (القوات المصرية). في حين كان الشعراوي يحب السادات ويؤيده، وتولّى في عهده وزارة الأوقاف. وقال كذلك، إن الملائكة حاربت إلى جانب القوات المصرية في أكتوبر 1973. وكان ذلك سبب النصر الجزئي المحدود للجيش المصري.

وتملّق بعض الإخوانيين المصريين قائلين إن الهزيمة كانت اقتصاصاً إلهياً انتقاماً لسيد قطب الذي أعدمه النظام الناصري! وكتبت مطبوعة اسلامية قائلة "لم تمض أسابيع على إعدام سيد قطب ورجالات الإخوان المسلمين.. حتى مرض عبدالناصر مرضه الخطير.. لتبدأ سلسلة من الأزمات والنكسات تحل بمصر واحدة تلو الأخرى بينما كان قادة مصر يزلزلون العروش ويشجعون الثورات(...) بعد تسعة شهور من إعدام سيد قطب كانت نكسة 1967 المريرة.. في يوم التنحي وقف علال الفاسي وهو أحد السياسيين المعروفين في المغرب... وقال في خطبة حماسية: "ما كان لله حاشا وتعالى - أن ينصر قاتل سيد قطب"! والمعزوفة الاخوانية البائسة ما زالت مستمرة، فعام 2011 قال مرشدها العام محمد بديع في رسالته الإسبوعية التي واكبت ذكرى النكسة "الإخوان عندما اكتووا بنيران الظلم والإستبداد ودخلوا السجون والمعتقلات وتعرضوا للتعذيب والتنكيل، كان الله للظالم بالمرصاد –في إشارة إلى عبد الناصر- فبعد كل تنكيل بالإخوان كان الإنتقام الإلهي سريعاً، فعقب اعتقالات 54 كانت هزيمة 56، وبعد اعتقالات 65 كانت الهزيمة الساحقة في 67"...

ولم تقتصر الخرافة على غلاة الاسلام السياسي، فخرافة النظام الناصري كانت أشد وطأة، لنتخيل ان الرئيس عبد الناصر قال للملك حسين بتاريخ السادس من يونيو عام 1967: "إننا نؤمن بالله ولا يُمكن أن يتخلى عنَّا، ولعل الأيام القادمة تأتينا بنصر من عنده". وسرعان ما روج الاعلام المصري الناصري واستثمر ما سُميَ بـ"معجزة ظهور العذراء في ضاحية الزيتون"، التي تبنَّت الترويج لها بالذات –كما رأى صادق جلال العظم -صحيفتا "الأهرام" القاهرية المقرَّبة منه، و"الأنوار" اللبنانية وثيقة الصلة بالأجهزة الناصرية، والتي نشرت ما قالت عنه إنه "دراسة علمية جادة تثبت أن"ظهور العذراء حقيقة واقعة "للدكتور رؤوف عبيد أستاذ القانون الجنائي في كلية الحقوق- جامعة عين شمس، ورئيس "جمعية الأهرام الروحية"، معتمدة- كما ذهبت في دعواها- على"تحضير الأرواح، والتقاط الصور الروحانية للأموات، وتجسيد الأرواح عن طريق الوسطاء... إلخ"، مشدِّدة على أن "تكرارَ ظهور السيدة العذراء يؤكد أن المعجزة ستستمر؛ حتى تعودَ القدس عربية وتتحرَّر من الإرهاب الصهيوني"(الأنوار، 12 مايو1968، ص12). وخرجت صحف القاهرة بأعجب خبر : "اهتم السيد شعراوي جمعة (وزير الداخلية وقتها) بمعجزة ظهور العذراء في كنيسة الزيتون وعقد اجتماعاً حضره السيد محافظ القاهرة". وكان محمد حسنين هيكل استاذ البروباغندا الناصرية، ينظر لـ"حاجتنا لمعجزة لكسب المعركة مع الصهاينة"، ونشرت جريدة الأهرام يوم 5 أيار 1968 تسجيلا فوتوغرافيّا يُظهر العذراء أو يُظهر خيالها الابيض!! هكذا قام رجال دين ومفكرون وعلماء بكُتّابة مقالات "علمية" لإثبات هذه الحادثة وتعليلها، وذلك كله نتيجة لخيبة الأمل والهزيمة الكبرى... وعندما سُئل صادق جلال العظم في أثناء استجوابه أمام محكمة المطبوعات اللبنانية عن قصده من مقالته حول معجزة ظهور العذراء، التي تضمنها كتابه "نقد الفكر الديني"، ورأى فيه أن "الإيمان بظهور شخصيات مقدسة مثل السيدة العذراء أمر طبيعي وقديم بالنسبة إلى غالبية الناس، وهدفه هو التغلب على الآلام اليومية والشعور بالشقاء في مواجهة حياة صعبة". غير أن الأمر الخطير هنا هو استخدام هذا الإيمان وتوظيفه، حيث تبنت أجهزة الدولة بصحافتها ووسائل إعلامها ووزاراتها القصة واحتضنتها وروجت لها واستنتجت منها ما أرادت من المغازي السياسية.


لا شك أن الخرافات تكثر في زمن الحروب والهزائم والخيبات، وهناك سلسلة طويلة من هذه الخبريات تجلت في وجدان الجماعات الطائفية اللبنانية سواء في الحرب ضد إسرائيل أو في المعارك الداخلية، والأمر نفسه يحصل في الحرب السورية، ولا أحسب  ان الأمور تغيرت كثيرا في الشرق الأوسط، فـ"الوعي" الخرافي او الغيبي بالأمور ما زال سائدا، من يراقب بعض التصريحات لرجال الدين في إيران أو سوريا، حول ظهور فلان أو انتظار ظهور فلان يدرك مآل الأمور، هؤلاء الشبان "وقود الحرب" في جزء كبير منهم تقودهم الخرافة والوعي بالخرافة، على أن الشماتة وثقافة البقلاوة لم تعد مجرد لحظة ظرفية ورد فعل على أخطاء سياسية أو نتاج عصبيات وايديولوجيات، فهي، فوق ذلك، أصبحت ثقافة سائدة ساحتها المنابر ومواقع التواصل الاجتماعي وحتى الشارع واركانها وجمهورها ليس الناس العاديين فحسب فبينهم من يدعي الثقافة والفلسفة...