نساء الموصل.. حكايات وجع

منال الشيخ
الإثنين   2017/06/12
أحاول تصور وجهها الآن وهي تحاول إعادة شريط حياتها ومصيرها
1-
ابنة عمتي التي تكبرني بأشهر، قاسمتني مقاعد الدراسة في الابتدائية والمتوسطة بسبب تواجدنا في الحي نفسه. تخرجت في معهد المُعلمات وتزوجت وعملت مدرسة منذ تخرجها. أنجبت ستة أطفال، مات ابنها البكر في حادث ارهابي في الموصل قبل سنوات. وسط أزمة المعارك الجارية في الساحل الأيمن حالياً، لم يتبق في بيتهم الكائن في حي المطاحن، حيث المعارك الضارية، شيء من الطعام أو ما يسد الرمق، إلى حين إيجاد وسيلة لكسر الحصار أو الخلاص. شدّت رحالها قبل أسابيع مع عائلتها، قاصدة بيت أخيها في حيّ مجاور، مشياً، كي تتزود ببعض الطعام وتلجأ إلى بيته بعد دمار حيهم. في الطريق، آثرت أن تبقى في المؤخرة لتحمي أولادها من غدر النهايات. بعد خطوات، لم تعد بحاجة لحمايتهم ولا حماية نفسها. كانت رصاصة قناصة داعش أسرع من خطواتها الراكضة نحو بر الأمان، لتستقر في رأسها من الخلف.

سقطت فاطمة وسط حطام المدينة. سقطت على أمل أن تصحو، لكنها لم تفعل. لم يستطع الزوج حملها أو حتى الرجوع إلى جسدها ووداعها للمرة الأخيرة. حاول انقاذ نفسهِ وأولاده بالعبور بهم إلى أقرب جدار، يحميهم من قناصة داعش. بقيت جثتها تنتظر غفوة المعارك كي تتمكن الشرطة الاتحادية من حملها وتسليمها لأهلها، وتدفن في اليوم التالي.

آخر مرة التقيتُ بها كان في عزاء والدتها، عمتي، قبل مغادرتي العراق. أتذكر وجهها الجورجي الأرميني الذي ورثته عن جدتيها، وكل ما أفكر فيه الآن هو نظرة أصغر أولادها، الذي لم يتجاوز السادسة من عمره، وهو يلتفتُ خلفه في انتظار أن تصلهُ أمه أخيراً ويعبرون شارع الموت بسلام.

2-
زوجوه فتاة "عاقلة"، رغم معرفتهم التامة أنهُ ولد مع أعراض واضحة لاضطراب التوحد والتأخر في النمو العقلي. كانت مفاجأة لنا أن يتم تزويج ابن عمي الأصغر. كنا على علم بحالتهِ. وعلى عكس ما توقعنا، فقد استمر زواجه وأنجب الأطفال وعاش مع زوجتهِ من دون أي حادثة تشير إلى فشل العلاقة. كنتُ أسمعُ أخباره بين الحين والآخر وأنه بخير. يقضي معظم الوقت مع أولاده وزوجتهِ، التي تدربت على فهم طلاسمه مع الوقت، كان يبدو أكثرنا سعادة وهو يرسم الابتسامة على وجههِ كلما التقى أحدهم. توفي عمي الكبير، والده، قبل أعوام من هجرتي إلى أوروبا. حضرت عزاءَه بكل يأس من تحسن الأمور في مدينة الموصل. كنت وقتها أفكر جدياً في مغادرة البلاد، وإلى الأبد. ما زلتُ أتذكر ابن عمي هذا وهو يجوب البيت بحثاً عن والدهِ. رغم أنهم أخبروه مسبقاً عن رحيلهِ، لكنهُ لم يقتنع بآلية الموت التي نعرفها. ظل يجوب زوايا البيت ويفتح باب "التكية" الخاصة بعمي كل لحظة، بحثاً عن دليل لوجود الموت، ربما!

قبل أيام فقط، بعدما اشتدت المعارك في الساحل الأيسر من الموصل، حاول ابن عمي الفرار من منطقتهم إلى منطقة أكثر أماناً. في الطريق وهو "يقود" عائلةً اعتادت أن تقودهُ طوال سنوات، اقتنصت رصاصة داعش حياة زوجتهِ التي عاشت كل تلك الفترة وهي تدرس تضاريس كائن بشري يعاني التوحد وبطء النمو العقلي، وجاهدت معهُ لتجعل العالم مكاناً أفضل لأمثالهِ. منذ أن سمعتُ الخبر من أمي التي تراقب الأحداث عن بعد، وأنا أفكر في ابن عمي الذي يجول زوايا الموصل باحثاً عن دليل واحد لرحيل زوجتهِ!


3-
عاشت ابنة عمي طوال طفولتها ومراهقتها تصارع ذكورية عائلتها وذكورية المجتمع. لم تكن تشبه بنات "القبيلة". كانت أكثرنا جرأة في تجربة وممارسة حريتها، التي ولدت عليها رغم معرفتها بالثمن إن حصل وواجهت معارضة من ذويها. كنتُ أكثر واحدة معجبة بإقدامها على أفعال كانوا يعتبرونها مجنونة، وأعتبرها استحقاقاً، مثل خوضها علاقة حب رومانسية رائعة، وهي ما زالت في السادسة عشر من عمرها والتخطيط للهروب مع حبيبها. أو قصة هروبها من بيت والدها احتجاجاً على تزويجها بقريب لنا كان يكبرها بسنوات كثيرة. ما زلتُ أتذكر تلك الحادثة وأنا أشاهد أبي وأخوتي يحاولون تهدئة أخوتها التسعة الذين توعدوا بمعاقبتها في حال العثور عليها. بعد نهارين من البحث اتضح إنها لجأت إلى بيت عمتي، وحلّفتها أن لا تخبرهم بشيء لأنها تريد بعض الساعات بعيداً من سوط أحكامهم عليها كفتاة. لكن عمتي كانت رقيقة القلب وحنونة علينا جميعاً، لأنها لم تملك رفاهية أن تكون أمّاً بسبب عقم زوجها، فكنا جميعاً بمثابة أولادها. سعت إلى تسوية أمرها مع عائلتها وأخذ التعهد من عمي في عدم التعرض لها، وذكّرتهم، خاصة عمي الأكبر، بمصيرها هي عندما أجبروها على الزواج من رجل لم ترغب به بسبب عمرهِ واختلاف الشخصيات. مع ذلك لم يأبه العم أو أولاده لنداء العمّة، فكانت عودتها من دون تعرضها للمعاقبة مقابل أن يحدد موعد زواجها في موعد قريب. ولأن العراق دائماً كان دولة قوانين على ورق فقط، ومن دون تنفيذ على أرض الواقع، رضخت بنت العم الشابة الحسناء إلى رجاء والدها لعدم تعريض اسمهِ للإهانة والتشويه بين الناس، خاصة وهو رجل دين وخطيب جامع وقدوة للكثيرين. مرّت السنوات وحاولت الشابة الجميلة أن تتأقلم مع قبح الحياة ومصائرها، وأنجبت أجمل الأطفال. عاشت رعب فقد أحدهم مؤخراً تحت سكين داعش، وهم يهددون بذبحهِ بسبب معارضتهِ لهم، لولا توسلها لهم ومقايضتهم حياتهُ بحياتها لما تركوه. عاشت الحادثة مع زوجٍ كان وظلّ يحبها ويقدرها حتى آخر لحظاتهِ. تلك اللحظات التي أصبحت فيهِا شاهدة على موتهِ خلفها تماماً، بعدما اغتالهُ قناصة داعش أثناء محاولتهم الفرار من حي موصل الجديدة، حيث كارثة القصف الأميركي لمئات المدنيين قبل أسابيع. أحاول تصور وجهها الآن وهي تحاول إعادة شريط حياتها ومصيرها، منذ أن بدأت رحلة عذاب الذاكرة والحياة في مدينة يكاد الحزن يأكلها قبل أن نكمل كتابة اسمها، وماذا لو تركوا لها جناحيها في محاولة تحليقها الأولى؟

4 -
لم يكن وجع نينوى حكراً على الموصليين فحسب. فما ارتكبه داعش في السنوات الأخيرة، ومن قبله قوات الجيش والشرطة المتورطين بقضايا الفساد وفلول نظام صدام، من ظلم وانتهاك للحريات وحياة المواطنين في المدينة والقرى المجاورة، لم يمر على تاريخ الموصليين والعراقيين بهذا الكم. قبل ثلاث سنوات، اشتهر اسم فتاة إيزيدية ناجية من بطش داعش، نادية مراد. صارت أيقونة الصوت المكتوم المنبعث من سهل نينوى في منابر الأمم المتحدة ومنابر السياسة في أوروبا وأميركا. نادية لا تجيد التحدث بغير لغتها، والعربية المختلطة بلكنتها الأيزيدية. مع ذلك لاقت روايتها لقصتها وقصة بنات جنسها من انتهاكات داعش الصدى الواسع في العالم. نادية فقدت معظم أفراد عائلتها في "غزوٍ" للدواعش على قريتها في سنجار، إبان سقوط نينوى العام 2014 . بعد تحرير القوات العراقية المشتركة لقريتها مؤخراً، استطاعت نادية أن تزور بيتهم المهدّم والمتبقي منهُ أنقاض فاجعة إنسانية بكل المقاييس.

للحظة، لم تعد نادية تذكر أنها وجه إعلامي معروف، واستسلمت لغريزتها وفطرتها الإنسانية إزاء جدران بيت طفولتها وخزائن أفراد عائلتها الراحلين. أجهشت بالنحيب وأبكت معها عناصر المقاتلين المرافقين لها، بل أبكت حتى الكاميرا التي كانت ترصد خطوات عودتها غير الميمونة إلى قريتها.

فاطمة، زوجة ابن عمي، ابنة عمي ونادية، مجرد أسماء في قائمة طويلة لأسماء نساء الموصل ونينوى اللواتي عشن ويعشن خراب القرارات الذكورية في حقهن. هل ستتمكن السماء أو المنابر الدولية يوماً من سماع نحيب نادية، رجاء عينيّ طفل فاطمة، حفيف غياب زوجة المتوحد، أو صرخة الزوجة والأم المكلومة؟