شعراء عراقيون في وحول السياسة

منال الشيخ
الثلاثاء   2017/05/23
لوحة لشوقي شمعون
ليس جديداً انخراط الشعراء في العالم السياسي، وليس أمراً يتناقض مع عالم الشِعر والأدب. بل يجد البعض أن هذه من مهام "المبدع" أو "المثقف"، أن يكون فاعلاً في الحياة السياسية كما الإجتماعية. في المقابل، هناك من يؤمن بفكرة الفن للفن، لا أكثر. في "ذهننا الشرقي" اعتدنا صورة "الشاعر الفنان"، وأنه فاعل دوماً ضد الاستبداد، بحكم أن الشاعرية والفن يتعارضان معه. لكن التاريخ والواقع يرينا أن هذه مجرد تصورات تم تشكيلها في وعينا الغض، ثم كبرنا عليها من دون أن ننتبه. ومن المعلوم أن الكتابة في السياسة، غير ممارستها، وهذا ما جدّ في الساحة العراقية مؤخراً. إذ اعتاد المجتمع العراقي "شعراء السلطة"، شعراء منبر ومداحين، ونادراً ما تعودوا عليهم في مناصب سياسية أو دور سياسي "فاعل" وبارز، رغم أن البعض لم يسلم منه مثل الشاعر شاذل طاقة، أحد رواد الشعر الحديث في العراق، على سبيل المثال.

في السنوات الأخيرة، تحديداً منذ العام  2013، نشط في العراق ما يسمى بـ"القوى المدنية". أصبح لهذه القوى، على اختلاف توجهها وتبعيتها، بعض التأثير في السلطة والشارع. فقد شهدت شوارع العراق وساحاته، اعتصامات واحتجاجات ضد قانون التظاهر وحرية التعبير وتحسين الخدمات والفساد الذي ينخر جسد الدولة. في المحصلة، كانت هذه التظاهرات، وما زالت، تنتهي بإحراز بعض التقدم في إظهار "الصوت المدني" الذي غلبت عليه أصوات الأحزاب الدينية الحاكمة. للمفارقة، تقدم هذه القوى بعض الشعراء العراقيين الذين اعتبروا أنفسهم ممثلين عنها. في بادئ الأمر، استبشرت الغالبية، ممن لا توجه سياسياً واضحاً لها، بهذه المجموعة، واعتبروها "طفرة" سياسية في نظام الحكم في العراق، إذ لطالما غابت هذه القوى عن المشهد السياسي العراقي لقرون، تحت مظلة حكم الحزب الواحد أو الزعيم الأوحد، فكان معظم الشعراء والفنانين مجرد توابع هامشية لخطاب السلطة. لكن سرعان ما تبددت علامات التفاؤل هذه مع تعاون بعض هؤلاء الشعراء، مع القوى الدنية، ومفاوضتها، من أجل تقنين "الديموقراطية" وحرية التعبير. هذان المطلبان اللذين مات من أجلهِما كثيرون، ومن أجلهما ساعدوا المحتل الأميركي في اجتياح البلد، كما ادّعت قوى "المعارضة" آنذاك.

لا يخفى على الجميع أن العراق أصبح دولة ميليشيات دينية بامتياز، وهم مَن يتحكمون في الشارع العراقي والحياة العامة. ولا أحد يستطيع إنكار توسع النفوذ الإيراني في البلد، والذي، عبر "رُسله" المنتشرين في مفاصل الدولة، يكاد يسيطر على آليات نظام الحكم والنظام الاجتماعي. نادراً ما يجد المواطن العراقي، وزارة أو مؤسسة عراقية من دون مستشار إيراني، خصوصاً في بداية إنشاء الحكومة "المنتخبة" بعد حل مجلس الحكم المؤقت. كانت مهمة هؤلاء المستشارين، إفراغ المناصب المهمة في الوزارات والمؤسسات المؤثرة في المجتمع، من عناصرها "العراقية" السابقة، واستبدالهم بعناصر وافدة وغير مؤهلة، غالباً. كل هذا تم تحت مسمى رفع المظلومية عمّن طاولتهم سياسة الإقصاء والترحيل في السبعينات والثمانينات "بتهمة" التبعية الإيرانية. فتبوأ هذه المناصب من لا شهادة جامعية له، ولا أوراق ثبوتية قانونية أو امتيازات علمية تؤهله أن يكون موظفاً في "الدولة العراقية". وعلى إثر ذلك انتشر الفساد في هذه المؤسسات، ومنها وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والرياضة والشباب، أهم الوزارات التي تتعامل مع الجيل الشاب و"أمل المستقبل". ويبدو أن هذه كانت هي الخطة، وهي احتواء الأجيال الصاعدة من أجل أجندات أحزاب تحكم، وربما ستحكم لعقود، عبر صناديق الاقتراع. وكما نعلم، فأمام هذه الصناديق تخرس "المعارضة" حتى لو كانت تعلم أن ما يحدث هو مجرد خطة محكمة لإفراغ الدولة من روحية التنافس بين الجيد والأفضل.

هكذا، صارت هذه القوى "المدنية"، بقيادة بعض الشعراء العراقيين، تضه يدها في يد هذه القوى الدينية التي تعرقل كل محاولة تقدّم وتغييرن بحيث تتأصل في المجتمع العراقي، ومنها الخطوط الحمراء المتمثلة في الشخصيات الدينية والطقوس المذهبية التي لا يمكن للشارع العراقي المساس بها.

قبل سنتين تقريباً، كتبَ أحد الشعراء العراقيين منشوراً يتضمن هجوماً صريحاً على ممارسة بعض العراقيين لطقوس "عاشوراء"، وما كان رد فعل الوسط "الشعري" العراقي إلا الهجوم عليه واستنكار ما نشره، بحجة أنه يهاجم ويهين وينتقص من إرث وحرية الغالبية من مذهب معين. وبالرغم من أن الشاعر من المذهب نفسه، إلا أن هذا لم يمنع الكثيرين ممن استهجنوا كلامهِ، من المطالبة بقتلهِ واعدامهِ صراحةً. بعض الشعراء المحسوبين على هذه القوى المدنية استنكروا الدعوة إلى قتلهِ، لكنهم في الوقت نفسهِ لم يمنعوا أنفسهم من أن يعطوا الحجة لمن دعا بلغتهم "الشعرية" الملتوية، بحجة أنهُ تجاوز "الخط الأحمر"!

كثرت هذه السجالات، وتراشق الاتهامات بين "الشعراء" تحديداً في السنوات القليلة الماضية، وكان آخرها التراشق بين من يشغلون "مناصب في السلطة ومقربين منها"، كما ادعى الكثير ممن هاجمهم، وبين مجموعة تعتبر نفسها من دعاة الدولة العلمانية، حول إعادة نشر تصريحات سابقة لرئيس الوقف الشيعي في العراق علاء الموسوي وفيها يكفّر الصابئة والمسيحيين. وهذا ما سبب هلعاً حقيقياً في الوسط العراقي، لأن "المعتاد" بالنسبة للغالبية هو أن تصدر مثل هذه التصريحات من داعش، مثلاً. توجه الكثيرون من هؤلاء الشعراء إلى استنكار هذه التصريحات ومطالبة الدولة بالتدخل لإيقاف خطابات الكراهية في منابر العراق. مع أن الوسط العراقي اعتاد على رمي مثل هذه القنابل الصوتية، قبل كل انتخابات، وتصريحات الموسوي لم تأتِ بجديد على ما يؤمن بهِ، إلا أن التراشق بين هؤلاء الشعراء حدث بعدما فسر البعض خطاب الشعراء المستنكرين أنه جاء قلقاً ومحابياً ومفاوضاً على خطاب القوى الدينية لتحجيم سياسة الإقصاء وليس انهائهِ بالكامل. إذ يرى بعض هؤلاء المستنكرين أن السلطة في يد هذه الأحزاب الدينية "الشيعية"، وأن جزءاً من حق تواجدهم في السلطة هو ممارسة برامجهم ومشاريعهم، حتى لو كانت تتعارض مع توجهات وبرامج "العلمانية" التي يدعون إليها. وهذا أمر مفهوم ومقبول في حالة نظام سياسي في دول متقدمة مثل أوروبا، حيث "تنتصر" الأحزاب اليمينية بين الحين والآخر، مع ذلك تستمر في العمل على وضع مصلحة البلد والشعب فوق كل شيء. لكنهُ غير مفهوم في دولة غير مستقرة وغير آمنة مثل العراق، أن يُستخدَم "سوط" الديموقراطية لتنفيذ أجندات استبدادية.

لم يعد الشاعر العراقي شاعراً بالفطرة، ولا نخلة محسوبة على ملايين النخل المخذول، فقد باتَ لدينا الشاعر البرلماني، الشاعر المستشار، الشاعر الناطق الرسمي بلسان المحاربين، الشاعر "الشهيد" في سبيل حماية الجنرال الأجنبي، وشاعر قائد التحالفات "المدنية" مع القوى الدينية، وهكذا...

ووسط كل هذا أتساءل، كشاعرة وقارئة: أين أخذتهم السياسة من الشِعر، أو أين ذهبوا بالشِعر مع السياسة؟!

أمثلة كثيرة وأحداث أكثر مرت على الدولة العراقية منذ تأسيسها، وكان للمثقف والشاعر الأثر في مسيرتها، خصوصاً حقبة الشيوعيين الذين لم يتبق من أثرهم الفاعل حالياً سوى بعض المقالات المتهكمة والضعيفة هنا وهناك، وعلى رأسهم كبيرهم سعدي يوسف. لكن أي حقبة تاريخية سابقة لم تشهد "تورط" الشعراء العراقيين في الحياة السياسية كما يحدث الآن. وكما أسلفنا، فإن الكتابة في السياسة غير ممارستها. ولعلنا لم ننس بعد، أن لوركا كان شاعراً، وقُتل شاعراً، فيما يقضي السياسي والشاعر الصربي رادوفان كاراديتش حكماً مؤبداً لارتكابهِ جرائم الحرب في البوسنة.


(*) تنويه: لم يتم ذكر أسماء الشعراء المشار إليهم في المقال لوضوحها لمتابعي الشأن العراقي، والغاية من المقال ليست ذكر الأسماء بقدر الإشارة إلى مرحلة مفصلية يمر بها الوسط الشعري العراقي.