رحيل ستانلي غرين الذي طارَد أشباح الشيشان

جوزيف الحاج
الإثنين   2017/05/22
غروزني-الشيشان-2000-
لم تلجأ وسائل الإعلام العالمية الى نعي ستانلي غرين، المصور الصحافي، بل أعلنت "موت شاعر". لم يكن غرين مصور "حروب" – اللقب الذي حمله طوال حياته واحتقره.  كان شاعراً دائم البحث عن الكرامة والعدالة والحقيقة في صوره. في تحديه للموت على جبهات الحروب التي غطاها على مدى سنوات عمره أحب الحياة. غاب غرين صباح الجمعة الفائت عن 68 عاماً بعد مرض عضال.

عمل في الصحافة الأميركية لكن جمهوره الأحب إلى قلبه وجده في أوروبا التي احتضنت شاعريته "وحيث التوثيق الصحافي ليس فقط نقل وقائع، بل هو نقل مشاعر تجسد الإحساس بالحياة"، كما قال.

وُلد في نيويورك العام 1949، إنضم في شبابه إلى منظمة "الفهود السود" ونشط ضد حرب فيتنام. عندما دخل إلى "معهد الفنون المرئية" النيويوركي لفتت موهبته نظر معلمه، المصوِّر الكبير وليم يوجين سميث، أحد رواد التحقيق الصحافي المصوَّر في النصف الأول من القرن العشرين، فشجعه على التوجه إلى الفوتوغرافيا.

عمل في السبعينيات والثمانينيات في كاليفورنيا، منصرفاً إلى تغطية أوساط فناني الـ"punk" التي كتب عنها في سيرته المصوّرة "جواز سفر أسود": "فجأة، وجدت نفسي في بيئة تعيش وتشرب وتصنع الفن. كانت الفترة صاخبة لكنها الأكثر سلمية في حياتي. لقد شكّلت بداية معنى جديد لحياتي.".

في 1986، انتقل إلى باريس، حيث عمل في تصوير الأزياء "لكن شبح وليم يوجين سميث ظلّ يتراءى لي ويدفعني إلى العطاء أكثر والإنصراف إلى تصوير الأحداث"، تذكّر. بدأ التوجه ببطء إلى تغطية أحداث محلية ليكتشف أنه في المكان المناسب الذي تصوره له معلمه. صدف أنه كان في برلين الشرقية لحظة سقوط الجدار (1989)، وفي موريتانيا ومالي يشهد على المجاعات والحروب (1992). في 1993 وبعد تغطية قصيرة للحرب في السودان، توجه إلى موسكو حيث كان الغربي الوحيد الذي غطى محاولة الإنقلاب على يلتسين لكن من جهة الإنقلابيين: "كان الجنود الروس يطلقون الرصاص من دون توقف. تفكيري بالموت شجعني. الشجاعة هي السيطرة على الخوف. تلك اللحظة بالذات هي التي صنعت صلابتي"، قال.

مذاك لم يتوقف غرين عن تغطية صراعات العالم: رواندا (1994)، تفكك الإتحاد السوفياتي، أذربيجان، وحرب الشيشان التي تحولت هاجسه الوحيد. "كنت أعود إليها كلما نشرت صحيفة أو مجلّة تحقيقاً لي. كانت عودتي إلى هناك مثل ومضة".

في 1996 أوفدته "نيويورك تايمز" إلى الشيشان للتحقيق في إختفاء أميركي (فريد كوني) يعمل في منظمة إنسانية: "أعتقد أن السبب الذي دفعنا إلى اختياره لهذه المهمة هو قدرته على تضمين صوره كل عالمه الداخلي. كان عليه في هذه المهمة الشيشانية مطاردة أشباح." قال ك. ريان مدير التصوير في المجلة.  بنظر الأخير "غرين مصور شاعري، يصور الأشياء أثناء بحثه عن حقائق حول الإنسان والحرب والتوترات. إنه قادر على تحقيق هذا النوع من الصور المجازية التي تتجاوز الواقع".

"ماذا حصل لفريد كوني؟" تحقيق من عدة مواضيع صورها في الشيشان بين 1994 و2003، إضافة إلى كتابين، أشهرها "الجرح المفتوح". "في غروزني، قرر غرين أن تكون صوره المؤثّرة صوتاً يقف بوجه العنف الرهيب" قال ب. بوكايرت.

أثّرت تغطيات الحروب على نفسيته وعلى حياته الشخصية. قال في الصيف الماضي: "كانت تصعب عليّ العودة إلى الوطن بعد تصوير حرب من هذه الحروب التي رافقتها. كنت أشعر بالذنب كلما قضيت أوقاتاً سعيدة، أو كلما ضحكت من نكتة صديق. كنت عندما أضحك، أتوقف فجأة لأفكر فيما تركت خلفي من مآسي".

في "جواز سفر أسود"، شبّه حياة مصور الحروب بحياة فراشة. كتب: "إذا حالفنا الحظ نعيش ثمانية أعوام ونكون إيجابيين، وإذا طالت المدة فذلك يعني أننا نتحوّل. لاحظتُ ذلك في داخلي وفي الآخرين. نحن ضحايا للإجهاد بعد كل تلك الصدمات وبعد تعاملنا معها بطرق مختلفة.  في النهاية لا نبقى فراشات جميلة بعد ذلك، إذ نصبح مثل حشرة تطير إلى قلب النار".

استمرت هذه الشعلة في إغرائه. تركت تجاربه أعمق الأثر في شخصه. في 2004 سافر إلى العراق حاملاً فقط كاميرا "لايكا"، كتحية لذكرى مصوري حرب فيتنام التي لم يصورها. في العراق صوّر عملية إعدام أربعة عناصر من "بلاك واتر": "إنها أعنف ما رأيت في حياتي. الأميركيون الذين ينهضون في الصباح وهم يحلمون بالحب والحياة، يجدون فجأة أن كل ذلك قد انتزع منهم. الناس الواقفون من حولي كانوا مثل الشواء. إستل أحدهم سكيناً... وأنا الأميركي، خريج معهد فني، أصوّر وأفكّر في إطار لقطاتي وأبحث عن الزاويا الصحيحة لأنني أريد الحصول على صور الجثث، وصور الناس أيضاً لأنهم كانوا يبتسمون. كل ذلك كان يحصل وأنا ميّت." قال.

في ذلك اليوم بالذات، فقد غرين شيئاً ما. "كنت أعرف أنني لن أعود أبداً." كتب في"جواز سفر أسود". عندما سأله مصورون مبتدئون عن مهنة تصوير الحروب أجاب: "العيش!"، وبعد صمت أضاف: "لا نجاح في هذه المهنة ولا انتصارات".  وقال في قلبه: "إنهم يريدون فقط أن يصبحوا مصوري حروب، لكن ليس لديهم أدنى فكرة عما يعنيه ذلك"...

رغم هذا أصرّ دائماً على "الرقص مع الموت" كما كتب مايك كامبر في كتابه "مصورون في الحرب". جاء إلى لبنان في 2006، ثم إلى تشاد ودارفور (2007) وبعدهما أفغانستان.  جاء إلى سوريا في 2013، الفترة الأخطر على الصحفيين هناك.

ترك غرين وكالة "VU" ليؤسس أخرى هي "NOOR" التي شكّل نبضها، واعتبرها عائلته. ضحى لأجلها. كان مصدر إلهام العديد من زملائه الذين إفتقدوه اليوم.