مهدي عامل... وَجه القاتل ووِجهة القتيل

محمد حجيري
السبت   2017/05/20
مهدي عامل الطوباوي الثوري في تنظيره كان عدميا في شعره
في 19 أيار/مايو 1987 كتبت جريدة "النهار" اللبنانية: "في أول حادث من نوعه منذ دخول القوات السورية الى بيروت الغربي، اغتال مسلحون قيادياً شيوعياً هو استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور حسن حمدان، المعروف أيضا باسم مهدي عامل. واتهمت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي يد العمالة والخيانة"... ويكتمل مشهد الاغتيال برفض مراجع شيعية إقامة صلاة الجنازة على الراحل لأنه شيوعي، وصلى عليه في مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة.. بمعنى آخر تمّ تشييع جنازة ابن حاروف الجنوبي، الشيعي الشيوعي، من مسجد للطائفة السُنيّة. يومها قال "اليسار العربي" و"الثقافي": "الرجعية والفكر الظلامي قتلوا مهدي عامل". ووقف الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني الراحل جورج حاوي في تأبين المفكر، وقال: "أصبح المشهد مملاً، أليس كذلك يا رفاق؟". وربما قصد حاوي بالملل أن قافلة كبيرة من أركان ووجوه الحزب الشيوعي تعرضت للإغتيال بكواتم الصوت في بيروت والضاحية والجنوب ومناطق اخرى، لم توفر حملة الاغتيالات والتصفيات حتى كبار السن مثل المفكر حسين مروة (اغتيل في سريره في منطقة الرملة البيضا)، والفنان المقعد نور طوقان... وبحسب المعلومات المتداولة، فإن قاتل مهدي عامل لم يكن مجهولاً، أفصح عن نفسه أثناء تقبل التعازي بمهدي عامل في مركز الحزب الشيوعي في وطى المصيطبة، حين خاطب رئيس فرع المعلومات في القوات السورية في لبنان آنذاك غازي كنعان، قيادة الحزب الشيوعي، قائلاً: "هل كان ضرورياً أن تدفعوا هذا الثمن؟"... وأتى الاغتيال بعد أسابيع على دخول القوات السورية بيروت بعد التمهيد لها بحرب شوارع بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي وملحقاته...

وهناك الكثير من التأويلات والأقاويل حول العلاقة الملتبسة بين الحزب الشيوعي (اللبناني) والنظام السوري الأسدي، دائما يردد بعض الشيوعيين أن النظام السوري كان يريد من الحزب الشيوعي الانصياع لأوامر النظام السوري في عملياته العسكرية ضد اسرائيل، يريد أن يعرف تفاصيل ما يجري. لكن من يراجع بعض العمليات الانتحارية ضد اسرائيل التي نفذها الحزب الشيوعي منها عملية جمال ساطي، يلاحظ من خلال وصية الأخير أنها هدية "للقائد الرفيق حافظ الأسد". بمعنى آخر، كان بعض عمليات الحزب الشيوعي تأتي في إطار التوظيف السياسي، مع التذكير بأن الحزب الشيوعي يقدم الهدايا للنظام السوري ويحصد منه الخيبات على عكس الأحزاب الأخرى (القومي السوري نموذجاً)... فكل الأحزاب (اللبنانية) الموالية لسوريا أخذت ثمن ولائها مراكز نيابية ووزارية في الجمهورية اللبنانية ما عدا الحزب الشيوعي..

هكذا كان الحزب الشيوعي يعيش حالة التباس بين أنه يعرف قاتله أو قاتل أركانه، لكنه يبقى ضائعاً، ويكتمل المشهد أكثر فأكثر نقلاً عن أحمد برقاوي، الأستاذ في جامعة دمشق، إنه "بعد اغتيال حسين مروة برصاص "حزب الله"، بأيام، اجتمعنا في بيت الدكتور طيب تيزيني، على شرف حضور الفيلسوف والشاعر الماركسي المحبوب، مهدي عامل، وسئل مهدي: كيف ستكون العلاقة بينكم وبين حزب الله وأمل بعد اغتيال حسين مروة؟ فأجاب: لا بد من التحالف معهما، نحن في معركة صعبة. فقلت: من قتل حسين مروة سيقتل مهدي عامل، أخاف عليك. فتبسم مهدي بسمته الطفولية وأجابني: لا تخف علي. ولم يمض على اغتيال حسين مروة أشهر حتى اغتيل مهدي".

بين اتهام "يد العمالة والخيانة"، وفضيحة رفض التشييع وصولاً الى معزوفة "لا بد من التحالف معهما" (أي القتلة)، كأننا أمام فصام سياسي، لا أدري إن كان كلام برقاوي دقيقاً. فمهدي عامل في دنيا الآخرة ولا أحد بمقدوره تأكيد الكلام المنسوب اليه، لكن لا استغرب ان يكون مهدي عامل قال هذا الكلام، فهو رغم سعة اطلاعه وقدراته الفكرية والنظرية، كان ملتزماً بالقرارات الحزبية، والحزب الشيوعي كان دائماً في هذا السياق، ويزداد وضوحاً الآن في زمن الدكتور خالد حدادة ومن بعده الأستاذ حنا غريب.

وفي مناسبة الذكرى الثلاثين لاغتيال مهدي عامل، لا أعرف ما الذي يمكن كتابته. ما أظنه أن مهدي عامل أهدر طاقته الفكرية في التنظير للحزب والحركة الثورية العربية، كان إسماً لامعاً في المكان الخطأ، كان ساحراً بكلماته، ربما من الصعب الآن محاكمته أو تفكيكه خطابه، لكنه باختصار كان حزبياً وملتزماً وطوباوياً ثورياً، وإن كانت لديه أدواته الفكرية وأسلوبه الممتع في الكتابة والفلسفة، لكن في جزء من كتاباته كان ابن الحرب الأهلية، ومن منظّريها، ويختصره بعض مريديه بعبارته الشهرة "لست مهزوماً ما دمت تقاوم". و"إنها لمخاطرة كبرى ان يفكر الواحد منا في واقعه باللغة العربية"، ويرسمونه كأيقونة على جدار.

كتب عباس بيضون ذات مرة "لا أعرف أين كان صار حسن حمدان (مهدي) لو عاش إلى الآن، وبعدما حدث ما حدث للشيوعية وللمنطقة وللبنان. لكني واثق من أننا لا نجنبه شيئا إذا أخّرنا قراءته. كان حسن حمدان، في ما يقول، يكتب للمستقبل. كان يتخيل المستقبل من جنس الحاضر ولم يخطر له بالطبع انه، في ما بعد سيفوق الخيال، مع ذلك لست أكيداً من أن المستقبل لا يخدمه، كانت لمهدي دائما فتنته"... ومهدي عامل الثوري الطوباوي في كتاباته النظرية، كان عدمياً في شعره وهو الذي أصدر "فضاء النون" و"تقاسيم على الزمان"، فهل كان وعيه الفردي الشعري نقيضاً لوعيه الثوري الحزبي؟