مقام ابن عربي

محمود الزيباوي
السبت   2017/05/13
طريق الشيخ النابلسي المؤدي إلى جامع ابن عربي، صورة من عام 1940
فازت رواية "موت صغير" مؤخراً بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها العاشرة، وتوّج هذا الفوز اسم صاحبها الروائي السعودي محمد حسن علوان، كما توّج اسم بطلها محيي الدين بن عربي، الشيخ الصوفي الذي لقّبه أتباعه بـ"الإمام الأكبر"، بينما وصفه أعداؤه بـ"الفيلسوف الملحد" الذي نادى بـ"مذهب وحدة الوجود الإلحادي الخطير".


قدّم محمد حسن علوان سيرة متخيلة لحياة الفيلسوف منذ ولادته في الأندلس في منتصف القرن السادس الهجري وحتى وفاته في دمشق، وقدّمت الباحثة الفرنسية كلود عدّاس من قبله سيرة علمية صدرت في باريس منذ عشرين سنة، عرفها القراء العرب في ترجمة من توقيع أحمد الصادقي صدرت عن دار المدار الإسلامي في بيروت العام 2014. في الميراث الأدبي، نجد في كتب السير والتراجم خلاصة لهذه السيرة الاستثنائية التي بلغت معها المسيرة الصوفية القمة في منتصف القرن الثالث عشر. هو محي الدين محمد بن علي بن محمد ان عربي الحاتمي الطائي الأندلسي، ولد في مرسية في الأندلس العام 1164، درس في أشبيلية حيث عاش عشرين عاماً اطلع خلالها على المدارس التقليدية في الإسلام، وتابع تحصيله في مراكز أخرى من البلاد الأندلس والمغرب حتى العام 1194، ثم جال في في مصر والشام والعراق، وعاش فترة في قونية حيث أحاطه سلاجقة الروم بمظاهر التكريم، وعاد إلى الشام في 1225، وفيها رحل عن هذه الدنيا في 1240، ودُفن عند سفح جبل قاسيون، في المقام الذي يحمل اليوم اسمه.

في "الوافي بالوفيات"، نقل الصفدي آراء أهل العلم المتضاربة في تقييم فكر ابن عربي. بحسب ابن مسدي، كان ابن عربي "ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، روى عن السلفي بالإجازة العامة، وبرع في علم التصوف، وله فيه مصنفات كثيرة، ولقي جماعة من العلماء والمتعبدين وأخذوا عنه". وبحسب الشيخ عز الدين ابن عبد السلام، كان ابن عربي "شيخ سوء كذاب مقبوح يقول بقدم العالم ولا يرى تحريم الفرج". في القرن الرابع عشر، دعا البعض من أعداء فكر ابن عربي إلى تحريمه، وقاموا بإتلاف كتابه "فصوص الحكم"، كما شهد ابن الوردي في التكملة التي وضعها لكتاب "المختصر في أخبار البشر": "مزّقنا كتاب فصوص الحكم بالمدرسة العصرونية بحلب عقب الدرس وغسلناه، وهو من تصانيف ابن عربي، تنبيهاً على تحريم قنيته ومطالعته، وقلت فيه: هذي فصوص لم تكن بنفيسة في نفسها، أنا قد قرأت نقوشها، فصوابها في عكسها". تكرّرت هذه الواقعة في زمننا حيث أمر أبو بكر البغدادي خليفة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام عناصر تنظيمه بجمع وإحراق جميع كتب الفلسفة والتصوف التي تعود إلى محي الدين ابن عربي في صيف 2014.

في الواقع، يستند الأمر الذي أطلقه أبو بكر البغدادي على تقليد سلفي متين له دعاته منذ زمن بعيد. رفض ابن تيمية اطروحات ابن عربي ورأى في مبدأ "وحدة الوجود" خروجاً عن الدين القويم والسنّة الشريفة، وتبنّت هذا الموقف طائفة من الإئمة والعلماء. في الخط المعاكس، سعت طائفة أخرى من العلماء إلى تبرئة ابن عربي من تهمة الإلحاد التي أُلصقت به، وصنف الفقيه برهان الدين البِقاعي الشافعي  كتابا سماه "تنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض و ابن عربي"، فردّ عليه الإمام جلال الدين السيوطي بكتاب "تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي". دخل الشيخ إبراهيم بن محمد الحلبي في هذا السجال، ووضع كتاباً بعنوان "تسفيه الغبي في تكفير ابن عربي". اشتدت هذه المعركة في الأزمنة الحديثة، وازدادت حدتها بشكل كبير مع تبني المؤسسات السلفية موقفا متصلبا يماثل في حدّته القاطعة الأمر الذي أطلقه أبو بكر البغدادي..

من المفارقات الغريبة، في تركيا كما في إيران، أن كُرّس فكر ابن عربي، وبات هنا وهناك "الإمام الأكبر"، لكنه بقى في العالم العربي هذه "الشخصية الإشكالية المتفردة التي ما برحت مثار اختلاف لا نهاية له"، كما كتب عبده وازن مؤخرا في صحيفة "الحياة". حققت مؤلفات ابن عربي شهرة واسعة في الأوساط الأوروبية، وجذبت بعض نصوصه الصوفية الفائقة الجمال العديد من أهل الأدب والشعر، غير أن صاحب "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية" لا يزال موضع شبهة في الأوساط العربية.

منذ بضع سنوات، نظمت دار الكتب المصرية بالتعاون مع السفارة الإسبانية في القاهرة مؤتمراً حمل اسم "ابن عربي"، فطالب عضو كتلة الإخوان المسلمين في مجلس الشعب النائب علي لبن، وقال أن هذا المؤتمر "أقيم بتمويل أجنبي مشبوه، الأمر الذي يحقق الأهداف الصهيونية الأمريكية بتفريق كلمة الأمة بالترويج لفكر ابن عربي الذي يتعارض مع أصول الدين". وفي مطلع العام 2009، اعترض الاخوان المسلمون على صدور "الفتوحات المكية"، فردّت "دار الكتب" على هذا الاعتراض، وأكدت تمسكها بنشر الكتاب. في إيران، اعتبر علماء الشيعة وأئمتهم الشيخ الأكبر ابن العربي من أكابر علمائهم ومفكريهم، وأشهرهم عبد الرزاق الكاشاني الذي شرح فصوص الحكم وترجمها إلى الفارسية، وملا صدر الدين الشيرازي الملّقب بـ"خاتمة حكماء الشيعة". وفي بلادنا، أصدر السيد جعفر مرتضى العاملي كتابا بعنوان "سني متعصب"، أراد من خلاله أن يثبت أن صاحب "فصوص الحكم" ليس بشيعي. ونقع على بيان لـ"مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث" يقول ان"ابن عربي زنديق ناصبي"، بينما تدعو الحوزة العلمية  في قمّ مفكّري الشيعة وفقهائهم إلى دراسة "ابن عربي قدس سره".

في تركيا، تحول ضريح جلال الدين الرومي إلى مزار ضخم يقصده العامة والخاصة، وباتت مدينة قونية كلها مقاما له. وفي سوريا، بات ضريح ابن عربي أشبه بقبر ضائع وسط سوق شعبي في منطقة الصالحية الشركسية، على سفح قاسيون في دمشق، وعندما قصد الأديب المصري يوسف زيدان هذا المقام، وجده وسط "سوق دهليزي للخضار والفاكهة". يرقد ابن عربي في جامع متواضع، هو في الواقع أول جامع عثماني بُني في دمشق، وقد شيّده السلطان سليم الأول يوم دخل المدينة، بعدما رأى الشيخ محي الدين في منامه، وتلقّى منه الأمر ببناء مقام له فوق الضريح، كما تقول الرواية. ويحوي المسجد لوحاً زُيّن بكتابة منقوشة تعود إلى هذه الحقبة، ومطلعها: "الحمد لله، أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف مولانا للإمام الأعظم ملك العرب والعجم خادم الحرمين الشريفين السلطان سليم شاه بن بايزيد بن محمد خان".

في الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا المسجد، يقع ضريح الشيخ محي الدين داخل غرفة مقبّبة، ويجاوره قبران لولديه سعد الدين وعماد الدين، وقبر الأمير عبد القادر الجزائري الذي أوصى بدفنه إلى جانب معلّمه "الشيخ الأكبر" يوم تُوفّي منفياً في دمشق العام 1882.