"يا عمري" لهادي زكاك: الجَدّة تقاوم فيلم حفيدها

روجيه عوطة
الجمعة   2017/04/07
صحيح أن هنريات حبيسة صورته، لكنها تنفرد بما لا يتمتع به: النسيان
لا يكفي أن تكون الشخصية، التي صورها هادي زكاك، وهي، هنا، جدته هنريات، صاحبة قصة امتدت لأكثر من مئة عام، كي يستوي فيلم حفيدها، "يا عمري"  على معنى سينمائي (الفيلم يعرض حتى 19 نيسان-متروبوليس أمبير صوفيل). ذلك، حتى لو عمدت الصالات إلى عرضه، فدفع متفرجيه إلى مزاولة طقسهم الكثارسيسي المألوف، والمزعج أحياناً، لا سيما حين يعبّرون عنه بقولهم إنهم تأرجحوا أمام الشاشة بين البكاء والضحك، أو التأسف والإغتباط. 

ولا يكفي أن يكون الشريط مشغولاً بعطف الحفيد على الجدة من أجل يفتح الباب على دنياها، ويجعلها أكثر من ذاتية، فلا يعود متاحاً الدخول إليها سوى من خلاله. مثلما لا يكفي أن تأخذ العدسة على عاتقها فعلَي التذكير والتذكر، من أجل أن تجد لها موقعاً غير نافل. كل هذا لا يكفي، كي لا يبقى "يا عمري" بمثابة زيارة إلى هنريات، لا يحمل لها شيئاً بعد مسعاه إلى أن يأخذ منها أهم شيء: نسيانها.

فبظهورها الأخير، كانت هنريات تجلس على مقعد المَنية الآتية، بلا ذاكرة، وبلا حركة، وبسمع غائر، وجسد منكمش على زواله وألمه، لكنها بدت بهية بحياتها، إذ تحتفظ بها خلفها بعد أن استنزفتها. كحال العجائز، بلغت آخر حضورها، وراحت في مكانها تنفي عنه كل ما يعيقه أو يوهنه، لكي تمارسه على سجية ملتهبة في همودها. إلا أن الكاميرا اقتربت منها، وقررت أن تلتقطها، مركزةً على وجهها، قبل أن تحدق في جلدها الرفيع، وعروقه الدقيقة، ومن ثم تخلي كل ما حولها من مرئيته، فتجعله مبهماً، بحيث تصبح الأغراض والأشخاص فيه بلا سمات وملامح.

تالياً، بينت الكاميرا، هنريات، ملاصقة لوسط الصورة، التي بقيت أطرافها ضبابية، وفي إثر هذا، كانت الجدة شبه محبوسة داخلها، ولا تستطيع أن تصرفها، لأنها أقل حظوة منها. فالصورة، في هذا السياق، هي أقوى من موضوعها، أي الجدة هنريات، وهي مصنوعة لتوثق حضورها، أي لشدِّه بالوثاق بعد إحكام القبض عليه، وليست مصنوعة لتوّثقه، أي لإثباته وتمكينه، وهذا إذا افترضنا مسبقاً أنه يفتقر إلى ما يوطده.


تنطلق الكاميرا من كونها توفر لهنريات الناقص والمفقود، أي المرأى والمسمع، بالإضافة إلى الذاكرة. ففي وسط تلك الصورة الملتبسة، وبعد أن يضع هنريات داخلها، يشرع زكاك، وبنبرة عالية وثخينة، بطرح إستفهاماته على جدته، التي لا تستطيع التعرف عليه ولا تتلقى كلماته، فتطلب منه الإقتراب أكثر، وبدوره، يقدم على ذلك كمخرج، وليس كحفيد، مصطحباً الكاميرا أكثر صوبها، حتى تكاد ترتطم بها. على هذا النحو، ترتبط آصرة القرابة الممحية بآصرة القرب التصويري، أو بالأحرى الإلتقاطي، فينتجان آصرة أخرى، تحل هنريات فيها مقوضة الحضور، ومع هذا، لا تغيب كلياً.

لقد رغب الفيلم في أن تكون الجدة، لكنها لم تحقق بغيته، لأنها لا تتعرف على حفيدها، وبالكاد تتعرف على أولادها. مثلما رغب في أن تكون المهاجرة وراقصة التانغو، والعاشقة، لكنها، وعند تسجيل العدسة لها، وعند إقحامها في الصورة الزائغة، وعند وضع صورها الفوتوغرافية القديمة تحت نظرها، كانت كائنة ناسية، وهذه روعتها، فلا تمت بصلة لتاريخها، ولمواضيها، ولواقعاتها ولأمكنتها. كانت هنريات الكائنة، لكن الفيلم أرادها غير ذلك، وفي اعتقاده أنه يعيد لها شأناً خسرته بفعل مرور الزمن. لكن، حتى غايته هذه، لم يمض بعيداً في إنجازها. فصحيح أن هنريات حبيسة صورته، لكنها تنفرد بما لا يتمتع به، وبما يخولها أن تقاوم تأطيره لها، أي النسيان، الذي تقدر به أن تكون وجهاً لوجه مع الموت. وذلك، في حين أن الفيلم لا يقدر أن يكون بكاميراته وجهاً لوجهها العاري من أي ذكرى، أو حكاية، أو موقع إجتماعي.

ففي نهاية "يا عمري"، ولما تظهر هنريات ساحبة لسانها، تبدو كأنها تسخر من تصويرها في حينها، وفي كل حين، كأنها تقول للفيلم ولمتفرجيه: لا يمكنكم الإمساك بي، والتحية التي تريدون توجهيها إليّ، كذاكرة ملقاة عليّ في صورة زائغة، لا أحتاج إليها. فعلياً، فيلم "يا عمري" يصلح أن يعرضه مخرجه، كحفيد، لذوي جدته، مخبراً إياهم أنه أعادها بالكاميرا إلى العائلة، لكنها، وفي أثناء مشاهدتهم لها، لن تكون ما يريدونها هم، بل ستظل الكائنة، كائنة النسيان. فالسلام على روحها.