الحرب الجوّانية

رشا الأطرش
الخميس   2017/04/13
للحرب وجوه.. وللهرب كذلك (بيروت الغربية - 1984 - غيتي)
للحرب اللبنانية، التي تُستعاد اليوم الذكرى الـ42 لاندلاعها، وجه جوّاني.
جوّانية مختلفة عن تلك التي اعتدناها مُنتجةً لخطاب من بطن الحرب، بمروياتها ومفقوديها وصورها وفنونها وقتلاها.. جوّانية، تصلح أن تكون ملمحاً جيليّاً يميز بين المولودين قبل الحرب (شبابها)، والمولودين في أول الحرب (أطفالها ومراهقوها)، والمولودين في آخرها أو بعد انتهائها المزعوم.

قد تقتضي البداهة أن يختزن الجيل الأول، في خطابه ومعاشه، شيئاً من الأسى والندم والقهر، بل وربما بعض الغيرة ممّن لم يعيشوا الحرب، ولم تُصَب أجمل سنوات عمرهم بالتشوّه والمآسي والخيبات. ولعل البداهة هذه، لا تجافي الحقيقة، لكنها ليست الحقيقة الكاملة. فثمة ما هو كامن أو مرافق، مثل موسيقى تصويرية تسبغ إحساساً ما على مشهد سينمائي. قد يعترف شباب الحرب، أو لا يعترف، لكن في رنّات أصواتهم، غالباً، شيئاً من التفوق. كأنه وعيٌ عُلويّ يظلّل ذاكرة عامة أو حتى محطات شخصية يروونها من زمن الحرب. تفوّق حزين، ربما. لكنه ليس بلا ذاك الصدى الذي يُراد له أن يكون حكيماً. تفوُّق التجربة والخضرمة. تلك الميزة الحلوة-المُرّة، يعانقها الجيل الأكثر تشاؤماً، والأكثر يأساً من لبنان، سواء مَن هاجر منهم باكراً، أو مَن بقي، أو حتى مَن نقل البندقية من الكتف اليسار إلى اليمين المذهبي. يعانقونها بحسرة بادِية، لكن أيضاً برِفعة خَفِرة. كأن الحرب، التي شاركوا فيها، كمقاتلين وحزبيين وفنانين ومنظّرين، أو تحملوها في البيوت والشوارع ومقرات العمل.. هذه الحرب التي صودف أنها لم تقتلهم أو تصيبهم في أجسادهم، يخال سامعهم أنها منحتهم صلاحيات العارفين. وبالتالي هم خطباء دائمون، يستعينون بأرشيفهم الحيّ لفهم معضلات لبنانية راهنة. ولا يُلامون. إذ ما زال الزعيم هو الزعيم، والطائفة هي الطائفة، والمواطَنة الزبائنية ذاتها، والدولة هي نفسها الدولة.. وإن تَجَمّلت. لكن، يبقى لافتاً، أن غالبية هؤلاء لا تدرك سوى انكسارها أو انتصارها (وفقاً للهوية السياسية والطائفية)، فيما التجربة يخالطها زَهو ملتبس، يشابه "المعرفة"، ويستحق لوحده تأملاً ودراسة. معرفة لا تبدو من النوع التراكمي الذي كان يفترض أن يؤسس للبنان ما بعد الحرب، بل كأنها الذكرى المحفورة في وجدان صاحبها، وتعني صِفراً لسواه.

أما جيل أطفال الحرب ومراهقيها، فهؤلاء، في الغالب، جيل الدهشة. شكّلت اليوميات المليشياوية، وعيهم الأول. كأن الحياة، كلّ حياة، وأي حياة، تتمحور حول مواقيت القصف، طوابير الأفران، أخبار الخطف والحواجز والقتل على الهوية، القناص المرعب، انقطاع الفيول، إقفال المدارس ثم فتحها، الدراسة على ضوء الشموع، الاستماع إلى الأخبار في الراديو قبل الخروج تحسباً لمعركة طرأت فجأة، وترشيد استهلاك المياه التي يستيقظ الحي بأكمله ليحتفي بمجيئها فيملأ أحواض الاستحمام وكل أوعية المنزل. الجيل الذي فتح عينيه على اتصال هاتفي يستلزم المحاولة عشرات المرات، بعد رفع السماعة كل ربع ساعة لالتماس "الخطّ". بل ولهذا الجيل أساطيره التي غالباً ما تبنّاها كِبارُه كحقيقة علمية مثبتة: ففي كل العائلة أصابع مباركة يستجيب لها قرص الهاتف، وغالباً ما يُطلب من صاحبها أو صاحبتها تكرار طلب الرقم الذي "يعلّق" معه، دوناً عن سائر أهل البيت، ويروح هذا المميز يتفنن في تدوير القرص، مرة بسرعة، ومرات بعجالة، والمفارقة أن هذا "المختار" غالباً ما ينجح، مُثبِتاً صحة النظرية!

هو الجيل الذي لا يعرف من الترفيه سوى مشوار البوظة وربما الملاهي (التي تسيّر ألعابها على بَرَكة النوايا الحسنة والقليل من الصيانة)، والسينما المحفوفة زيارتها باحتمال "محشاية" تحت أحد المقاعد، والقناة التلفزيونية الواحدة المقسومة بين "تلة الخياط" (للمسلمين) و"الحازمية" (للمسيحيين). فكان افتتاح "المؤسسة اللبنانية للإرسال"، أواسط الثمانينات، أعجوبة توازي اختراع الكاميرا وبهجة الأفلام الأولى. إذ راحت تعرض أحدث الأفلام الأجنبية والـ"بيست سيليرز" ومسلسلات كوميدية وبوليسية جعلت سنوات النشأة على اتصال ما بالفضاء الخارجي، المسمّى أميركا أو أوروبا، أو حتى المكسيك، ومصر بأحدث ما كتب أسامة أنور عكاشة.

هؤلاء جيل الانبهار بكل تطوِّر شهدوه، مهما كان بسيطاً. لا يعرفون عن "سويسرا الشرق" سوى ما جاء في أحاديث أسلافهم. ولأن من سِمات المراهقة ومستهل الشباب، في كل الأحوال، الاستخفاف بذكريات الآباء والأمهات، كنوع من القَتل الفرويدي، فإن بيروت المروية بدت للجيل هذا، خرافة ممجوجة، وأبعد من لوس أنجليس في مسلسل Moonlighting الذي تبثه "إل بي سي". الستينات والسبعينات ومقاهي شارع الحمراء، وصالات السينما ودور النشر ومقرات الصحف، ومطاعم الروشة حيث صوّرت أفلام مصرية شهيرة، ومهرجانات بعلبك، وحفلات "بيسين عاليه"، ومجد "فندق صوفر الكبير"... كلها كانت حكايا لا تعني أولئك الشباب في أول طلعتهم. في حين أن "مجمّع الكسليك" في "الشرقية"، بدا في أوائل الفيديوكليبات المتلفزة لماجدة الرومي، مساوياً لحلم باريسي، وهنا على مرمى حجر! حلم ممكن، لكنه، في عيني أبناء "الغربية"، حظوة أقرانهم في المقلب البيروتي البعيد-القريب. أضواء وشجيرات مقلّمة و"سنتر" تجاري حديث. في "بيروت الغربية" لم تقف الحرب إلا لهدنات بين "المرابطون" و"أمل" و"الشيوعي" و"الاشتراكي" و"حزب الله"، وفلسطينيو المخيمات، والقوات السورية... بينما عرفت "الشرقية" فترات أطول من الاستقرار تحت سيطرة مليشيا واحدة هي "القوات اللبنانية"، فازدهرت، وظهرت فيها اوتوسترادات – يا للعجب – تُنار ليلاً بالكهرباء، ودرج التلفزيون على تصوير حفلات "صالة السفراء" في "كازينو لبنان".

هو جيل الدهشة، إذاً. درّبته الحرب على الاحتماء في ملاجئ البنايات، وحمّامات البيوت وأروقتها الصغيرة، وهذه "مهارات" لا تضمحل. لكنه، على الأغلب، الجيل الذي أَنِف الأحزاب، كُفراً بـ"السياسة" التي تأتي عبرها، وتلَقَّف مباهج الحياة الصغيرة كعطايا تستحق الاحتفاء. ولمّا أُعلن انتهاء الحرب، راح يكتشف معنى السِّلم بشهية: الحياة الجامعية، الفردانية، العلاقات العاطفية المفتوحة، السهر، النشاطات الرياضية والثقافية. ناهيك عن "اختراع" الشأن العام، بعدما بات للبنان شأناً مَدَنياً عامّاً، ولو بتصرّف: نقاش إعادة الإعمار، التفكّر في المدينة، وسطها التجاري الجديد، نشاط المجتمع المدني (وفساده)، الحفلات الموسيقية وفِرَق الروك اللبناني الذي لا يعجب زياد الرحباني، الخصخصة، إعادة اكتشاف "الآخر" بحذر، واكتشاف كلمات من نوع: انتخابات (طلابية أو برلمانية أو بلدية)، حكومة، قانون، تيار، اعتصام...

ولعل الأحداث الأمنية التي تخللت مرحلة ما بعد "الطائف"، تصلح أداة لفهم ملامح الاختلاف بين مراهقي الحرب، ومراهقي السِّلم. ففي غزوة 7أيار2008، مثلاً، لم يكن الذعر واحداً. فعند أولاد الحرب هو ذعر الذاكرة العائدة من مكان سحيق في النفوس، مدججة بهدير القصف وأزيز الرصاص، بتقنيات الاحتماء، واللوذ بالجدران السميكة بعيداً من زجاج النوافذ، وتخزين المؤن ومتابعة الأخبار. وعند الأخيرين هو ذعر مستجد، غريب، ومحيّر. أولاد الحرب صاحوا: كفى! أيعقل أن نعيش هذا مجدداً؟! وأولاد السِّلم تمتموا: ما هذا؟! ما معناه؟!

دهشة الأخيرين كانت دهشة خوف، ارتباك. أما دهشة أسلافهم، فتحولت عن الانبهار بالاستقرار الهش، لتلفظ أنفسها في أحضان خوف أليف استحال غضباً. ومِن بين براءة هؤلاء، وحنق أولئك، صعد سؤال: أي منّا أكثر لبنانية؟ نحن الذين حفظنا مسرحيات الرحابنة لكثرة بثها إذاعياً أيام المعارك، ونتذكر بمرارة حلوة تسالينا بورق الشدّة في الملجأ المعتم؟ أم هؤلاء المصدومون ببلد لم يُشفَ من عنفه؟ هل أصبحنا نحن المزهوين بتجربتنا، بدلاً من الجيل الذي سبقنا ونخر مسامعنا بـ"سويسرا الشرق"، ثم بالقضايا المتفجرة التي ناضل من أجلها أو ضدها؟ وبماذا نتباهى؟ بأي معرفة وأي خبرات؟ وهؤلاء اليافعون، علامَ يتحمس بعضهم؟ ولماذا يغرق البعض الآخر في بديهيات التفسير، وأوّلها أننا، هكذا، مجتمع يطفو على بحر من القنابل الموقوتة، ولا حلّ؟!

أسئلة لا تنتهي، والأكثر منها تبايناتها، ومسارات إجابات معقدة.

تعودنا اليوم ذكرى الحرب، ويعود معها شعار "كي لا ننسى".
لكن، بلى، نريد أن ننسى، سواء مكثنا أم سافرنا.
أريد أن أنسى. ترى، أهي رغبتي الخاصة؟ أم رغبة جيلي من مراهقي الحرب؟ أم رغبة عابرة للأجيال؟ مهما كانت الإجابة، فالمؤكد أن للحرب، المستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور، الدور الأساس في تدبيجها.