انكيدو الوجع العراقي: لا مكان للاختباء

منال الشيخ
الإثنين   2017/04/10
المخرج زرادشت أحمد
لم يحدث في تاريخ أقدم كاتدرائية نروجية (سانت سفيتون)، الواقعة وسط مدينة ستافنجر أن عرضت فيلماً أو عملاً فنياً في صحن الكنيسة، وهي للمرة الأولى تنظم عرضاً افتتاحياً للفيلم الوثائقي النروجي الطويل (Nowhere to hide) أو لا مكان للإختباء. الفيلم من إخراج المخرج الكردي- النروجي زرادشت أحمد، وهو من مواليد كردستان العراق، له تجربة طويلة في مجال صناعة الأفلام الوثائقية. لم يكن هذا السَبق الوحيد الذي حققه الفيلم، بل حصل على أول جائزة  IDFA الهولندية، لأفضل فيلم وثائقي طويل للنروج، وهي أشهر جائزة لأكبر مهرجان متخصص في الأفلام الوثائقية، تُقام في أمستردام كل عام. ثم تبعتها جوائز وترشيحات أخرى، ودخل في قائمة تصفيات أفلام الأوسكار، وما زالت مشاركة الفيلم مستمرة في كثير من العروض. وجاء في تقرير لجنة تحكيم مهرجان IDFA حول الفيلم بهذه الجملة الافتتاحية: 
"هناك أفلام من الرائع أن نشاهدها، وهناك أفلام علينا أن نشاهدها. الفيلم الذي اخترناه 
(Nowhere to hide) يحقق الغايتين".

يبدأ المخرج تصوير الفيلم في العام 2011، مع جلاء القوات الأميركية من العراق وبدء مرحلة جديدة في تاريخ البلد. لم يكن في حسبان طاقم الفيلم عندما بدأوا التصوير أن هذا سيكون الشكل النهائي له. إذ إنهم، مثل كثير من المراقبين والمرتقبين، لم يتوقعوا أن تزداد الأمور سوءاً مع خروج القوات الأميركية، وترك البلد غارقاً في الفوضى والاقتتال الطائفي، حسمب يقول زرادشت في تصريح لـ"المدن". يبدأ الفيلم بمشهد يترجم حرفياً العنوان الذي اختاره، لا مكان للإختباء. يمشي بطل الوثائقي الممرض نوري شريف، من مدينة جلولاء في محافظة ديالى، بنعلٍ صيفي و"دشداشة" بيضاء منهكاً في قفر، حيث لا جدران ولا عمران تمنع من تلاقي السماء بالأرض في نقطة الأفق، باحثاً عن ماء وربما مخرج من الجحيم الذي يعيشه.

كان هذا المشهد هو النهاية التي وصل إليها الممرض "نوري"، بعدما عاش أربع سنوات مع كاميرا المخرج وكاميرا شخصية بقيت معه، رصدت تفاصيل يومية من حياته كممرض في قسم الطوارئ، وتفاصيل مدينة أنهكها الاقتتال الطائفي والإرهاب حتى سقطت بيد "تنظيم الدولة" العام 2014. لم يكن ممكناً مصاحبة "شريف" بالكاميرا طوال وقت التصوير، ولهذا يطلب المخرج منهُ في الفيلم أن يتعاون معهُ في تسجيل يوميات يعيشها. ومن خلال عينيّ، الممرض المتفاني في عملهِ، والذي يعيش في بيت غير مكتمل مع عائلته الصغيرة، يأخذنا في رحلة مريرة في رصد الحياة اليومية "الطبيعية" للعراقيين بعد 2003. تلك المرارة التي يحتاج العالم رؤيتها الآن أكثر من أي وقت مضى. إذ إن سقوط ديالى أو الأنبار أو الموصل لم تكن وليدة اليوم، بل له جذور عميقة في المنطقة، ولعل الفيلم يحاول أن يفهم بعض جوانبها.

من خلال عملهِ كممرض في قسم الطوارئ، يصادف "شريف" عشرات الحالات يومياً، معظمهم ضحايا التفجيرات الانتحارية والمفخخات والاغتيالات. ترافقه الكاميرا حتى وهو يعالج المجروحين أو يتسلمهم مباشرة من رجال الإسعاف. ولأن عين الكاميرا هي الأصدق في مثل هذه الحالات، فهي تلتقط لنا أيضاً مشاهد معارك دائرة خارج المستشفى الذي يعمل فيه ويكشف عن آثار الرصاص والقذائف على جدرانها. الموت كان يستهدف "شريف" ورفاقه حتى وهم يحاولون معالجة الجرحى.


ومع ذلك، طوال الفيلم، بعكس ما نتوقع، الابتسامة والأمل لا يغيبان عن وجه "شريف"، خصوصاً عندما يكون وسط عائلته. فهو يغني ويصفق لأولاده الصغار وهم يرقصون على أنغام أغنية راقصة. يحاول أن يبهج راعي غنم صبي، بتعليمه الرقص، وكأنه يجد أن المخرج الوحيد حالياً، وسط كل ما هو فيه هو الفن وصُنع الجمال من كل لحظة ممكنة. يتنقل "شريف" وعائلته من منطقة إلى أخرى، من قرية إلى قرية هرباً من المعارك والعمليات الإرهابية التي استهدفت جلولاء. لكنهُ مع ذلك يبقى مخلصاً لمشفاه ويحاول أن يتواجد فيها في أصعب الظروف. لم يكن عمله يتوقف على معالجة الناس واسعافهم في المستشفى فحسب، بل كان يتعاون مع منظمات إنسانية نروجية لترشيح حالات الإصابات الشديدة الناتجة عن العمليات الإرهابية لغرض علاجهم، أو الحصول على أجهزة ومعدات تساعدهم في مواجهة وضعهم الجديد.

ومن خلال المشاهد، تصادفنا حالات صعبة للغاية، وصعب حتى مجرد النظر إليها. معظم هؤلاء كانوا ضحايا عمليات إرهابية، سواء بتفجيرات انتحارية عامة أو استهداف شخصي. وبعد أشهر وسنوات من التصوير ورصد يوميات العراق من خلال "شريف"، العراقي الذي يصبح لاجئاً في مخيم ويواصل عمله الطبي هناك، يقف صوتهُ حائراً أمام سؤال لا يجد له جواباً، ولا يعتقد أنه سيجده يوماً ما: لا أفهم هذه الحرب!

إذ بحسب ما تعلمه من التاريخ، وبحسب استيعابه لقضايا الحروب، فهناك أسباب لها وحيثيات. لكن ما يعيشه العراقيون، حرب غير واضحة الأسباب والمعالم والبداية أو متى النهاية. وهو تساؤل صار يعيش مع العراقيين ويؤرق منامهم أكثر من صوت الانفجارات والمعارك. يريدون أن يفهموا أو يعرفوا لماذا يموتون ومن أجل ماذا وإلى متى؟! هل نجح الفيلم في الاقتراب ولو قليلاً من الإجابة؟ هذا متروك للمشاهد عندما يسافر لمدة 86 دقيقة بعين المخرج زرادشت، الذي أبدع في وَصل أوصال الجرح العراقي عبر مشاهد يجعلنا جزءاً منها ويجعلها جزءاً منا، وعبر عيني "شريف" المواطن العراقي الذي يصبحُ أيقونة الشخصية العراقية "المعاصرة" وأنكيدو الحاضر.