"كان غدًا" لهلال شومان: بيروت في علبة ليغو

جهاد بزي
الأحد   2017/03/05
الرواية الرابعة لهلال، تبدو كمن تمشي على مهل، في مشهد فائق السرعة
"كان غداً"، رواية تحتفي بالبطء. على امتداد أكثر من 380 صفحة، يفرض هلال شومان إيقاعا بطيئا على السرد والوصف والشخصيات والقارئ، وعلى بيروت، وهو إيقاع مقصود.

الرواية الرابعة لهلال، تبدو كمن تمشي على مهل، في مشهد فائق السرعة، يتحول فيه المارة والسيارات وأعمدة الإضاءة إلى ما يشبه خطوط سرعة ملونة، ويتبدل فيه الليل والنهار في تتابع لحظوي، بينما الرواية تراقب، وتسجل.

بطء، هو في أصله اعتراض على سرعة لا توصل إلى مكان، أو إلى نتيجة. تسرع، بالأحرى، هو السمة الأولى لبيروت، مكان الرواية وزمانها، وبطلتها الوحيدة على ما أجزم.

كتب هلال رواية تشبه لعب الليغو الحديثة والمعقدة. إنك تعلم من البداية أنك ستبني من مئات القطع الصغيرة، مشهداً آخر لبيروت بعينَي راويها. لكنك، حين تبدأ بالعمل، ستحتاج إلى كتاب تعليمات من عشرات الصفحات يأخذ بيدك ليدلك إلى تركيب هذه القطع، قطعة قطعة، لا تتشابه بينها اثنتان، كل واحدة في مكانها المحدد.

هكذا بنى هلال شومان بيروته الخاصة في "كان غداً"، او هكذا قرر أن يشرك قارئه في متعة بنائها. القارئ الذي يعلم في نهاية المطاف أنه سيبني نموذجاً آخر للمدينة، ويستمتع بالتركيب، غير آبه بطبيعة الحال، بالنهاية.

لا بداية لـ"كان غداً" ولا نهاية. ولا إجابات جاهزة لسؤال القراء عما حدث ويحدث وسيحدث. هناك شخصيات غارقة في همومها اليومية. قصص حب وجنس وسأم وسوء فهم، ومشاعر مخبأة أقرب إلى الأسرار التي يفضحها كاتب يلمح من الصفحات الأولى إلى أن ما نقرأه ليس الواقع بعينه، لكنه محاكاة قاتمة، وساخرة، لهذا الواقع.

واقع موازٍ للمدينة الآن، يلامس خيالاً علمياً ولا ينغمس فيه إلى حد ظهور ما هو فائق للطبيعة، للعادية. الأحداث الغريبة التي ستظل تظهر على صيغة اخبار في الصحف أو في الإذاعات، لا تختلف غرابتها، في العمق، عن غرائب الأخبار اللبنانية اليومية التي اعتادها اللبنانيون، ويتعاملون معها إما بقدرية واستسلام، وإما بمنطق أن هذا هو "العادي"، مع أن لا شيء عادياً في الضوضاء التي تحكم بيروت وتتحكم بها.

سرد هذه الضوضاء، ووصفها، قد يكون التحدي الأصعب الذي جرّب فيه هلال. الكاميرا التي صور بها مشاهده، كاميرا دؤوبة. تلتقط المشهد نفسه مرات متعددة. مرة من جهة خالد من التلفون، ومرة أخرى من جهة ريم. مرة من هذه الشرفة ومرة من الشرفة المقابلة. من فوق. من تحت. يفكك الضوضاء وينقلها ببطء، في جرعات مركزة. يدخل رؤوس شخوصه ويخرج منها. يقولها ما يريد حيناً، ويتركها تفكر على سجيتها في حين آخر. يحب هلال شومان هذه الألعاب ويبرع فيها. تعطيه فسحة للهو بلغته وللاستمتاع بالكتابة، ولتكثيف صوره وشخصياته، ولتكثيف جملته البصرية الطاغية في رواية يضيع الواحد إذا كان يقرأها أو يتفرج عليها، لكنه لا شك يتشرب ضجيجها واثر هذا الضجيج في شخصياتها وفي ما تركته بيروت في كل من عاشها، ولم يقدر على فهمها، أو فهم بصمتها التي لا تمحى عن جلده وعن العطب الذي تركته في ذاكرته وفي تفكيره.

"كان غداً" هي رواية بيروت اليوم، بكل ما أورثته لنفسها، وكل ما ستورث نفسها. تسخر من بيروت لكنها تبقى حانية عليها. علاقة الحب - الكره الجذرية بين بيروت وناسها، يفككها هلال ويعيد تركيبها، في تجربة روائية رابعة تبقى مشدودة إلى خيط بيروت نفسه، تضرب عليه ببطء واصرار، لتخرج جملة موسيقية واحدة مفهومة، وسط كل هذا الضجيج.