"Heavy Dance" دونا خليفة: صوت يتهجأ عصف الموسيقى

روجيه عوطة
الأحد   2017/03/05
ينتج العزف الخماسي موسيقاه بجريان فالت من التوحيد
لا يمكن للمستمع إلى ألبوم دونا خليفة الأول "Heavy Dance" (سيجري إطلاقه مساء 10 آذار خلال حفل في دار النمر، كليمنصو، الدخول مجاني) أن يلحق بالموسيقى، ذلك، أنها أسرع من التقاط أذنه لها، نظراً إلى كونها هوجاء، لا تستوي على إيقاع واحد، ولا تستقر على نغم منفرد، بل أنها، على العكس تماماً، مؤلفةً بالتجميع والحشد والضم، وهذا ما يتصل بطرزها، أي الجاز، الذي يقوم بالتمازج على سبيل حر. بيد أن المستمع، وعندما يتلقى هذه الموسيقى، يستحيل مخترقاً بها، ويبحث داخلها عن موطئ لكي يخمد أثرها فيه، وفعلياً، وبدورها، تمده بهذا الموطئ، وهو الصوت الذي ترافقه، والذي، مرةً، يطبعها بشدته، ومرةً، يتسم بحدتها، وحيناً، يتجادل معها، وحيناً، يعطيها نوبة الحديث، ويختفي، لكنه، وفي كل الأحوال، يبقى داعي الألحان ومنشدها.


ينطوي صوت خليفة، من مقطوعة إلى غيرها، على مفارقة، وهي أنه لين وصلب على حد سواء. فيستمد ليونته من كونه خفيفاً أكثر من ضربات الآلات الموسيقى ونقراتها وأوتارها ونفخاتها المتخالطة. أما صلابته، فيستمدها من حنجرته، التي تلفظ أنفاسه من جوف غائر إلى وسع متين، حيث يتشكل بالإرتجال. فهذا الصوت شبه كاوتشوكي، مرن، لكن، مرونته لا تجعله، وفي أثناء الموسيقى ولجتها، يتمزق، أو ينكسر، بل أنه يمط، كما لو أنه يشيد مكان التئامها، قبل أن يجرها نحوه، ويمضي بها إلى نواحي جديدة. هذا ما يمكن ملاحظته عند الإستماع إلى مقطوعة "Belmonte" مثلاً، حيث لا يكف الصوت عن الدندنة إلى أن يصعد ويهبط، يسهب ويقصر، فتغدو الموسيقى المجاورة له رهن دورانه السلس والضليع.


على أن الصوت لا يشيد مكان الموسيقى فقط، بل إنه يناشدها، تماماً، كما في فاتحته. ولما تحل هذه الموسيقى، تخلق جواً من الزعزعة والإختلال، شبيه بعصف إيقاعي وكهربائي، ترتطم ريحه بالنوافذ والأبواب، وتخلف نوعاً من الرهبة، ومن الإضطراب، لا سيما في النطق. ففي Mendoza، يبدو الصوت كأنه يتهجأ حروف الهواء، ويلوك بلسانه، مستدعياً المجهول لكي ينزل، ويحضر.

ربما، من هنا، يصح ربط عمل خليفة بـ"ثقل حياتنا اليومية في مدينتنا المشحونة بالأحداث والأفعال والعواطف، التي تكون تارةً سَيّالة مُنسابة وطوراً ثقيلة يَصعب حملها"، على حد وصفها. فهناك ثقل في المقطوعات، ثقل الآلات وامتزاجها، وهناك، خفة الصوت وتأديته، الإثنان، يتكالمان، بدون أي إنسجام مقصود، أو تنافر مرغوب، يتكالمان، ويمتلآن ببعضهما البعض، بحيث أن الثقل يصير أمارة الخفة، والخفة ميزة الثقل، وبحيث ان الأداء يبين الإمتزاج، والإمتزاج يبرز الأداء.

ينتج العزف الخماسي موسيقاه بجريان فالت من التوحيد، فلما تصل الآلات إلى سيرها على صيغة واحدة، تعجل في الإفتراق عن بعضها البعض، كما لو أنها، وفي الأغلب من المقطوعات، في صدد إبعاد التماثل عنها. إذ أن لاعبيها، وهم بيار تريجيول (غيتار)، وفلوران كوربو (غيتار البيس)، وخالد ياسين (درامز)، وفيليب لوبز دو سا (ساكسافون)، وخليفة نفسها (الكمان الأجهر)، يظهرون كأنهم يشتركون في العزف عليها تلاصقاً، لكن، بلا أن يتجانسوا أو يتناسقوا، وهذا، ما يشير إليه تعاقب الآلات، ومحاولة كل آلة منها أن تتدخل في مكان دوران الموسيقى بلا أن تحجب أخرى، فهي تمتزج مع غيرها في الجريان لدرجة ازدحام هذا الجريان بهما.


مثلما عنونت دونا خليفة إحدى المقطوعات بـ"الكولاج الأول والأخير"، يجيء ألبومها بتركيبات وتأليفات إيقاعية ونغمية، غالباً ما يمهد الصوت إلى حضورها، وغالباً ما يعلن غيابها، فهو أساس ذلك الكولاج، كما أنه غرائه أيضاً. فتجتمع الموسيقى وتختلط عليه، وتطلع منه، وتستخلص سكونه، خصوصاً عندما تريد أن تبدي الجو، أو بالأحرى الطقس الإلغازي، الذي تبتكره. بعد ذلك، الرقص في ألبوم خليفة جسيم، غير أن جسامته لا تلغي رشاقته، ولا تنفي أنه مفطور على بغية جعله متوقداً أكثر، ويبقى أن إحداثه، والإستماع إليه، هو، فعلياً، ضرب من ضروب الدخول في غمار الموسيقى الهابة خماسياً، وترقب الصوت، الذي يوفر ملاذاً فيها ومنها.