في ذكرى إلغاء الخلافة الإسلامية

محمود الزيباوي
السبت   2017/03/04
أبو زيد في مسجد برقعيد، "مقامات الحريري"، العراق، 1237، المكتبة الوطنية، باريس.
إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، انتهت السلطنة العثمانية  التي عاشت لأكثر من ستة قرون وامتدت رقعتها الجغرافية إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا، وأعلنت الحكومة التركية رسميا إلغاء الخلافة الإسلامية 3 مارس 1924. بعد أربعة وتسعين عاما على إلغائها، ما زال حلم دولة الخلافة يداعب أذهان كثيرين، ولا تزال مسألة "الإسلام ونظام الحكم" مطروحة للبحث، وكأنّها قضية معلّقة لم تجد بعد الحل المناسب لها. 


في منتصف القرن الثامن، دخل أبو العباس السفاح، الكوفة، بعدما قضى على الأمويين وبويع في مسجدها. في ذلك اليوم، أُسقط العلم الأموي الأبيض ورُفع العلم العباسي الأسود. وظل هذا العلم يرفرف في زمن ضعف الخلافة وتفككها. في منمنمة من تصوير يحيى بن محمود الواسطي، تزين نسخة مزوقة من "مقامات الحريري"، حيث يظهر جمع من فرسان يرفعون رايات العباسيين السوداء في بلدة برقعيد، نواحي الموصل. وفي منمنمة أخرى تصوّر كذلك "المقامة البرقعيدية"، يظهر بطل المقامات أبو زيد مرتدياً جبة وعمامة سوداوين على منبر زيّن بحلية من اللون نفسه، مما أعطى الشيخ طابعاً عباسياً جلياً.

تتكرر الصورة في مخطوط مملوكي مصدره القاهرة، وفيه يظهر أبو زيد في منمنمة تزيّن "المقامة السمرقندية" في حلة خطيب يرتدي جبة سوداء ويقف في مسجد ترفرف فوق منبره راية العباسيين الشهيرة. تشهد هذه المنمنمة بشكل غير مباشر لانتقال علم الخلافة إلى المماليك الذين أقاموا خلافة عباسية "صورية" في القاهرة بعد سقوط بغداد العام 1258. جاء سقوط "دار السلام" بعدما فاض نهر دجلة وأغرقها طوال خمسين يوماً. اجتاح هولاكو المدينة وقضى على الخلافة العباسية. استباح المغول المدينة، فقتلوا الكثيرين من الأعظم من أهلها، وهدموا أهم مساجدها وقصورها. رُوّع المسلمون بسقوط حاضرة الخلافة العباسية وشعر الكثيرون منهم بأن العالم على وشك الانتهاء. في عهد سلطنة المماليك، استمرت هذه الخلافة "صوريا" في مصر إلى استولى العثمانيون عليها العام 1517. تنازل المتوكّل على الله الثالث، عن حقه في الخلافة للسلطان سليم الأول، وسلّمه الآثار النبوية، وهي بيرق وسيف وعباءة نبي الإسلام. نقل السلطان العثماني الخلافة إلى اسطنبول، ومنذ لك الحين، حمل كل سلطان عثماني لقب أمير المؤمنين وخليفة المسلمين.

في مطلع القرن العشرين، تصدّعت السلطنة أمام  صعود حزب "الاتحاد والترقي" الذي عارض حكم عبد الحميد الثاني وسعى جاهداً إلى عزله والتخلص منه. في العام 1909، تنازل السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش لأخيه محمد رشاد، ونُفي إلى سالونيك حيث عاش بقية عمره تحت رقابة شديدة. انتهت الدولة العثمانية سياسياً في خريف 1922، وأزيلت رسمياً مع إعلان الجمهورية في نهاية تشرين الأول-اكتوبر 1923، وإلغاء الخلافة الإسلامية في 3 آذار-مارس 1924. بعدها، ألغت الحكومة التركية وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، ثم ألغت القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية في قضايا الأحوال الشخصية، واعتمدت قانوناً جديداً مستمداً من القوانين السويسرية، فمنعت تعدد الزوجات، وساوت بين الذكر والأنثى في الميراث.

شكّلت الخلافة العثمانية في نهاية ربيع 1924 نهاية لمنطومة دامت قروناً، وجاء حكم مصطفى كمال أتاتورك أشبه ببداية لعهد جديد غابت عنه نظام السلطنة والخلافة. ارتفعت الأصوات المطالبة بضرورة وجود خليفة للمسلمين. وطمع بعض الملوك والحكام باحتلال هذا المنصب الشاغر. سارع ملك الحجاز الحسين بن علي الهاشمي على إعلان نفسه خليفة باعتباره من نسل الأشراف، من دون أن يكون ذلك عن مشورة من المسلمين، لكنه لم ينل تأييد العالم الإسلامي كخليفة، خاصة في مصر والهند. في هذه الفترة، أصبحت قضية الخلافة حديث الساعة وشغل الصحافة الشاغل، وبدأت الاجتماعات تعقد في شتى بقاع العالم الإسلامي خصوصاً في مصر والهند. أعلن عدد من علماء الأزهر بطلان ما قامت به الحكومة التركية "لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه"، ودعوا إلى "مؤتمر عام للمسلمين" يُعقد في آذار-مارس 1925. كذلك، أقيم في الهند مؤتمر تحت اسم "مؤتمر الخلافة الهندي العام".

في هذه الفترة الحرجة من التاريخ الإسلامي، وضع الشيخ علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكام"، وهو أشبه ببيان من مئة صفحة يتألف من ثلاثة فصول يحوي كل منها ثلاثة أبواب، وعنوانه الفرعي "بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام". تصدّى هذا البيان بجرأة لعقيدة راسخة تجزم أن الإسلام دين ودولة أسّسها النبي محمد، وأنّ الخليفة ما هو إلا نائب رسول الله، وسلطانه مستمد من الله تعالى. رأى علي عبد الرازق أن الإسلام "رسالة لا حكم، ودين لا دولة"، وأنّ النبي "ما كان إلا رسولا لدعوة خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنه لم يكن للنبي ملك ولا حكومة، وإنه لم يقم بتأسيس مملكة". بعد أربعة شهور على صدور "الإسلام وأصول الحكم"، اجتمعت هيئة كبار العلماء في آب-أغسطس 1925، وأصدرت كتاباً تأديبياً بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من صفوفها. اتهم هذا البيان الكاتب بـ"جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا"، وأدان زعمه بأن مهمة النبي "كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ".

في دراسة نُشرت العام 1946 كتبها طه حسين بالفرنسية وتناول فيها "الاتجاهات الدينية" التي ظهرت في الأدبيات المصرية في الثلاثينات، استعاد عميد الأدب العرب واقعة "الإسلام وأصول الحكم"، ورأى فيها تتويجاً للحركة التي صنعها جلال الدين الأفغاني ومحمد عبده. بعد هذه "الحركة الأولى"، جاءت "الحركة الثانية" في العشرينات اثر انبعاث الحركة الوطنية في العام 1918، وتمثلت بإنجازات عدة في المجال الاجتماعي كما في الحقل الأدبي. عن الخلافة وأصول الحكم في الإسلام. رأى طه حسين أنّ هذا علي عبد الرازق أثار بكتابه السلطات العامة وشيوخ الأزهر، وفُصل من وظيفته كقاض شرعي، وبعد ربع قرن، عاد  إلى مشيخة الأزهر، ثم عُيّن وزيراً للأوقاف، كما شغل عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ ومجمع اللغة العربية، وبدا أنه خرج من المعركة التي أشعلها منتصراً، إذ "لم يعد أحد يعتقد أن الخلافة نظام ديني، حتى بين الذين أدانوا علي عبد الرازق من قبل".

في الواقع، توالت الردود على أطروحات علي عبد الرازق حتى يومنا هذا، وتبيّن أن الأسئلة التي طرحها لا تزال معلّقة. منذ بضعة سنوات، أعيد طبع "الإسلام وأصول الحكم" ضمن "سلسلة كتاب الدوحة" في قطر، وقدّم لهذه لطبعة الجديدة الباحث السوداني حيدر إبراهيم علي، واعتبر هذا الباحث إن أسئلة عبد الرازق حول علاقة الدين والدولة، دينية أم مدنية، ستظل ماثلة وحية، فهي موجودة طالما استمر جدل الفكر السياسي الإسلامي حول هوية الدولة من غير حسم قاطع. سقطت الخلافة في آذار-مارس 1924، وبعد مرور أربعة وتسعين عاما على سقوطها، مازال حلم دولة الخلافة يداعب أذهان كثيرين.

أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" إقامة دولة "الخلافة" في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، وأن زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي هو "خليفة المسلمين" في كل مكان، ورفع راية الخلافة السوداء التي عّرفت بها قديما الخلافة العباسية. كما في المنمنمات التي تصوّر أبو زيد على المنبر، أطل "خليفة المسلمين" في صيف 2014 بجبة سوداء وعمامة سوداء، وقال: "إن إخوانكم المجاهدين قد منّ الله تبارك وتعالى عليهم بنصر وفتح، ومكّن لهم بعد سنين طويلة من الجهاد والصبر، فسارعوا إلى إعلان الخلافة وتنصيب إمام، وهذا واجب على المسلمين، واجب قد ضُيّع لقرون، وغاب عن واقع الأرض، فجهله كثير مِن المسلمين، وها هم قد أقاموه ولله الحمد والمنّة".

في ظلّ هذه الخلافة العائدة، ضاع العراق، وضاعت سوريا، بينما يستمر السجال حول الهويّة والمذهب الدين والمواطنة في حلقات الحوار المملّة، وكأننا لا نزال في زمن ولّى ولم ينته بعد.