"البائع المتجول"في ميدان الطرف الأغر: مصالحة الاستبداد؟

شادي لويس
الجمعة   2017/03/03
أصغر فرهادي (غيتي)
قبل ساعات من إعلان نتائج الأوسكار، كنت في طريقى إلى وسط مدينة لندن، لحضور عرض مكشوف، للفيلم الإيراني، "البائع المتجول"، في ميدان "الطرف الأغر". وبالرغم من الطقس السيئ والأمطار الخفيقة التي بدأت قبل موعد الفاعلية بساعات، فالميدان كان ممتلأ بالحضور. كان العرض المجاني الذي اقترح أقامته مجموعة من السينمائيين البريطاينين أمام السفارة الأميركية، تضامنا مع مخرج الفيلم، أصغر فارهادي- الذي أمتنع عن حضور الحفلة الختامية للأوسكار، إعتراضا على قرارات ترامب، وقد نال موافقة الشركة المالكة لحقوق توزيع الفيلم وعرضه في المملكة المتحدة. سرعان ما أعلن عمدة مدينة لندن، صديق خان، عن تبني الفاعلية الإحتجاجية، وتحويل الميدان الأشهر في العاصمة البريطانية لأكبر قاعة مكشوفة للعرض السينمائي لاستضافة الفيلم، ومعه أعلنت شركة "ستوديوهات أمازون" رعاياتها للفاعلية وتمويلها.

لكن الفاعلية التي قد بدأت كفكرة احتجاجية ضد سياسات ترامب، ودفاعا عن كوزموباليتنية سينمائية وإبداعيه مهددة ، اكتسبت أبعادا ومعاني أخرى، فاستجابه لطلب عمدة العاصمة، أتخذت الفاعلية اسم "لندن منفتحة"، فيما أعلنت شركة التوزيع صاحبة حقوق الفيلم، اعتبار الفاعلية، العرض الافتتاحي للفيلم في لندن (بالرغم من أن الفيلم قد عرض بالفعل تجاريا في لندن في مناسبتين سابقتين )، أما شركة "أمازون" فقد اكتفت بوضع علامتها التجارية كراعي رسمي للفاعلية، دون حاجة لتأكيد موقعها المركزي في شبكة الكوزموباليتنية الرقمية وتسليع عولمتها الفائقة، فالرسالة المتضمنة بلا عناء، أنه يمكنك أن تشتري الفيلم ذاته أو أي فيلم إيراني آخر لمخرجي الثمانينات مثلا ببضع ضغطات على لوحة المفاتيح، ومشاهدته مباشرة وفي التو، بينما يقترح عليك محرك البحث، في الوقت ذاته شراء فيلم ياباني، أو رواية تركية مترجمة لهم علاقة ما ببعضهم، توصلت له مصفوفات التسويق الشبكي، التي جمعت معلومات كافية عن تاريخك الرقمي لتحديد ذائقتك الأستهلاكية في بازار الثقافة المعولم.

وعلى وقع تصفيق الحضور، الذي تجاوز عددهم العشرة الآف، يقول عمدة لندن، صديق خان، من على منصة العرض: "ترامب لا يستطيع إسكاتي... أنا فخور ويجب عليكم أنا تكونوا فخورين أيضا، لأننا هنا اليوم، نقف رجالا ونساءا، وبأختلاف أعمارنا، الغني والفقير، مسيحيون ومسلمون ويهود وسيخ وهندوس وبوذيين.. ومن كل مكان في العالم"، لكن وفي الجملة اللاحقة تتحول رسالة الوحدة والتنوع  تلك إلى إعلان تسويقي فجأة، يضيف خان: "والرسالة الرئيسية واضحة: لندن منفتحة". فالعاصمة التي يؤرقها مستقبلها بعد إستفتاء الخروج من الإتحاد الأوروبي، تجد نفسها في حاجة لأقناع سكانها ومن قبلهم مؤسسات الأعمال العابرة للقارات، والتي تتأهب لمغادرتها بالفعل، ومعهم الكثير من السائحين، ومستثمري العقارات (الصينيون والروس والخليجيون)، بأن لندن لا زالت فاتحة ذراعيها لهم، وأن باريس وفرانكفورت وغيرها من المدن الأوروبية التي أصبحت تتباهى مؤخرا هي الأخرى بتنوعها وانفتاحها لاجتذاب الفرص ورؤوس الأموال المغادرة للندن وربما نيويورك أيضا، لا زالت لا تستطيع منافستها، فمن منهم أكثر تنوعا من لندن!؟ لكن رسالة خان، التي تتباهي بكزموبوليتانيتها، تحمل دعوة للفخر المحلي أيضا، فعلى اللندنيين والبريطانيين بشكل ما أيضا، أن يتباهوا بعاصمتهم وتنوعها، هكذا فقيمة التعددية العابرة للقوميات لازالت حاملة لقيمة محلية ومتضمنة لمعاني وطنية ضيقة.

من طهران، وعبر بث مباشر، وجه مخرج الفيلم، أصغر فارهادي، رسالة الى الجمهور في الميدان اللندني: "قفوا في وجه الفاشية، وانتصروا على التطرف"، مضيفا، "قولوا لا في وجه الأنظمة السياسية القمعية في كل مكان". لكن الفاعلية التي بدأت بتنبية عن عدم السماح برفع أي لافتات أو هتافات احتجاجية خلالها، ومنع منظموها بضع أفراد يحملون لافتات تحتج على أحكام الإعدام في إيران، والتمييز المؤسسي ضد المرأة هناك من الدخول إليها. وفيما اكتفى المحتجون بالوقوف خارج الحواجز المحيطة بالميدان، ورفع لافتاتهم في صمت، بعد أن منعوا من الهتاف، فإن الحضور لم يجدوا فرصة للتنبة لوجودهم، في خضم الاحتفاء بمحاربة الفاشية بالفن، فيما رفرفت الأعلام الايرانية في أيدي من رفعوها في أنحاء الميدان.

في تقرير عن الفاعلية، تنقل جريدة الغارديان، عن أحد الحضور: "أشعر بالسعادة لأنني واحدا من ضمن هذا الحشد، لأنه يعطيني شعورا بالإنتماء الحقيقي، لأن هذه مدينتي، وهذة هي المدينة التي استطيع أن أعبر بها عن هويتي، ليس كمجرد شخص يعيش في لندن، بل كإيراني أيضا". لا يخبرنا، عباس فايز، استشاري حقوق الإنسان المستقل كما عرف نفسه للجريدة، بأن الكوزموباليتنية اللندنية ما تبرح أن تعيد تأكيد الهويات الوطنية مرة أخرى لا أن تنفيها أو تذيبها، بل وأيضا ان الفاعلية تلك، كانت سياقا لتأكيد هويته القومية، كإيراني. يدفعنا فايز للتساؤل إلى أي مدى تبدو "عالمية" السينما الإيرانية قادرة على أن تجعلنا حقا "مواطنين عالميين" كما قال فارهادي في كلمته القصيرة، أو أن تجعل من فايز وغيره من الحضور الذين جاؤوا، أكثر شعورا بهويتهم الإيرانية وفخرا بها؟ 

ما كان مدهشا في فاعلية "الطرف الآغر"، ليس مجرد تبين فجاجة تقاطعات الفني والسياسي، والمعولم والقومي، والتسويقي والجمالي، بل إنه وبعد نحو أربعة عقود من الثورة الإسلامية الإيرانية، التي ارتبطت في الأذهان بهتافات "الموت لأمريكا" و"الموت لبريطانيا"، فإن فاعلية للاحتجاج ضد رئيس أميركي، في أكبر ميدان في العاصمة البريطانية، يرعاها عمدتها للترويج لمدينته، وبرعاية أكبر شركة أميركية للتسوق الرقمي، يكون محورها افتتاح العرض التجاري لفيلم إيراني ناطق بالفارسية، يستلهم عنوانه وجزء من حبكته من إعادة تدوير مسرحية لكاتب مسرحي أميركي، هو آرثر ميلر، فيما ترتفع الأعلام الإيرانية هنا وهناك، على وقع أصوات الموسيقيين السوريين، على مضض، فيما يقف المحتجون على النظام الإيراني مرغمين على الصمت في الخارج. فهل كان للسينما هنا وعولمتها أن تكون وسيط المصالحة والتفاهم المشترك أخيرا؟ أم وعن غير قصد أداة لتطبيع الإستبداد؟