العنف، الحزن، العائلة

رشا الأطرش
الخميس   2017/03/23
ذات مرة، قال لي صديق عزيز يكبُرني بنحو ثلاثين سنة، إن العائلة الحديثة لم تعد الوصف المناسب لمَن تربطنا بهم صلة الدم، ولا حتى مَن تربينا معهم في بيت واحد حيث جمعنا تاريخ، وذكريات، ونشأة يفترض أنها واحدة. بل إن العائلة في عصرنا هذا، بات يشكلها أولئك الذي اخترناهم أصدقاء، وظلوا كذلك، وليست الجماعة التي لا يد لنا في الانتماء إليها. العائلة الحقيقية اليوم، قال الصديق، هي نتاج الرُّشد، الذي انتقينا بموجبه أفراداً تجمعنا بهم أفكار وتجارب، ويقرّبنا منهم منظور مشترك للدنيا وشؤونها، العامة والخاصة.

العائلة... تخطر في بالي كثيراً هذه الأيام. ولا أعني العائلة التي نؤلفها مع مَن نصطفيه شريكاً في غَدِنا وإنجابنا. فهذه مؤسسة نبنيها بأيدينا وإراداتنا، كما حيواتنا. بل العائلة التي نفتح عيوننا عليها، ونظل نعتبرها، خطأً أو صواباً، ملجأنا ومختبرنا النفسي والتكويني.

لماذا تلحّ فكرة العائلة هذه الأيام؟ الأسباب كثيرة، قد لا تُدرَك مجتمعة. لكن المؤكد أن أحدها يعود إلى كمّ العنف الهائل الذي نعيشه ونتنفسه مكثفاً في هذا البلد. العنف الذي نسير به ويسيّرنا فيما نقود سياراتنا. أو لحظة توقفنا عند إشارة مرور حمراء، لنتلقى طعنات متكررة. بالكلام النابي، بأبواق سيارات يعتبرنا سائقوها بُلَهاء. وحصل أيضاً أن أتت الطعنات بسكين مميت. ثم، كل العنف الخانق للأمل. في الكلام عن ضرائب جديدة ستُهلك القليل الباقي من قدرتنا على استئناف أسلوب عَيش عَمِلنا من أجله بكدّ، ووعدنا أنفسنا بأنه سيصمد، بل ويتمدد، حتى يكبر أولادنا ويستقلوا. العنف الكامن في واقع أن قلة منا تملك ترف التخطيط للمستقبل. العنف في اللا-أمان، الصحي والاجتماعي والوجودي. تطعيم مظاهراتنا الاحتجاجية السلمية (رغماً عنا؟) بالمفرقعات والكَسر وعبوات المياه. النفايات التي ما زالت تتكدس في الشوارع وبين البيوت، وتتسرب أبخرتها إلى أجسادنا. وأجسادنا تقاوم. قد تفلح في حماية سلامها. وقد لا تفلح، فتتوعك، وصغارنا، بجراثيم لم نعرف مثلها من قبل. عنف الخطاب السياسي، كإنفاق انتخابي، كمجهود حربي. وعنف الدورة الاقتصادية التي يحرّكها/يجمّدها أَمنٌ هشّ، مُركّب على ماكينة فساد تغلغلت في يومياتنا حتى ما عدنا نميّز تنافرها مع القانون، بل ما عدنا نفتقد القانون حين يُغيَّب... وغيباته – للحق – كبرى.

العائلة... وفكرة الصديق المخضرم، مدوّخة. خصوصاً عندما يتخطى التفكير فيها، عتبة التنظير، إلى باحة الاحتياجات. فكل هذا العنف الذي نحيا، وأكثر، ليس من شيمه الحياء. يدخل علينا في صالوناتنا وغرف نومنا. يتسلل، وإن مانَعنا، إلى علاقاتنا بزملاء العمل، وبأزواجنا وأولادنا. الضغوط عظيمة. مساراتنا كأشخاص، تزداد تشابكاً، كعشاق وآباء وعاملين ومواطنين ولاهثين خلف نزر من السعادة. فيما الجميع إلى مزيد من الفردانيات، وفي الوقت نفسه إلى مزيد من اللوذ بالجماعة. "أهلُك حتى تهلَك"، هو الشعار الذي تربى عليه معظمنا. والحال أننا، من حيث لا ننتبه، إن أردنا التغنّي بعلاقة استثنائية تربطنا بأمٍّ أو أب أو أشقاء، قلنا إنهم "أصدقاء". وإن تغنينا بأصدقاء، وصفناهم بـ"أخوتنا". توصيفات حديثة، رافقت تطورنا إلى أفراد، ولو تحت خيمة العائلة-القبيلة. إنه التناقض الثقافي الأجمل والأسوأ، في بقعتنا من العالم. فالفرد معنى حضاري. والقبيلة، إلى جانب مآزقها الحداثية المعروفة، ما زالت تخلق إحساساً زائفاً بالاحتواء. ذلك أنها ترفع سقف التوقعات، وسرعان ما تهوي بالأفراد إلى قعر الخيبة، وينبت الحزن. ما عاد لآبائنا وأمهاتنا، وأبنائهم وبناتهم، أن يستوعبونا، وما عاد لنا أن نستوعبهم. التجارب هي الميزان، أي الحياة بما هي حياة. التفاعل، بالمفرّق، مع العنف أولاً. ثم مع الزمن كمعطى حقيقي وحيد، وحقيقته الوحيدة تحاكي مدينة الملاهي. كل هذا ينتج أفراداً بين الأفراد. فما عاد مُسلّماً به البكاءُ على صدر أُمّ، أو الاستدارة إلى أب ناصح، أو الشكوى لشقيق، أو التواطؤ مع شقيقة لإنقاذ موقف وإسعاف كَدَر. فالجمال المشتهى، ليس هو نفسه في عيوننا وعيونهم. وكذلك الحكمة والبداهة، وحتى العُقَد البشرية التي لا يكفي الترعرع في أسرة واحدة لتوحيدها بيافطة.

والسرّ، مجدداً، في التجارب. قُطبة الخيارات التي ما عاد العصر ليقنع بتركها مخفية. إذ نختار في أصدقائنا وشركائنا، عُقَدهم كما فضائلهم... ولا نختار معضلات تربيتنا، ولا نختار أحكام ذوي القربى.

صديقي المخضرم كان لا يزال على رأيه، عندما ساءلته مؤخراً في العائلة. اعترفت له بالدّوار الذي تسبب لي فيه، وبأني تلمّست نظريته طمعاً في علاج جذري لحرقة تصيبني منذ فترة، فوق المعدة مباشرة. وقبل أن يرسم ابتسامة النصر، سارعت إلى اعتراف ثانٍ: لكنني أحبهم كثيراً، بلا شروط. ومتأكدة من حبهم، ولو بشروط. وهذا يكفي أحياناً لتسكين الألم، من دون الإفراط في التفاؤل.