صنايعية مصر... سيرة خرّبها الضباط

وجدي الكومي
الجمعة   2017/03/10
ناعوم شبيب صنايعي برج القاهرة
كثيرون يظنون أن كتب التاريخ وحدها قادرة على أن تتضمن الكثير من القصص والعبٍر، لصعود وهبوط ونجاح وانكسار الأمم. لكن بجانب كتب التاريخ، تبرز أنواع من الكتب قادرة على أن تؤرخ بطريقتها للكثير مما أسقطته كتب التاريخ، عمدا، أو لأن واضعي مناهجها لم يلتفتوا لنوع من أنواع التوثيق الاجتماعي والاقتصادي لقصص النجاح والفشل التي صاحبت الأوضاع الاقتصادية للبلدان. في مصر، بدأت تظهر كتابات عديدة تلتفت لهذا النوع من التوثيق الاجتماعي، يفعله أصحاب هذه الكتابات دون قصد منهم لمنافسة المؤرخين، إنما فقط ليضعوا بصمة من بصماتهم على نمط كتابي جديد، لكنهم يقدمون هدية للمكتبة المصرية والعربية بما يحققون من جهد غير عادي في توثيق ما واكب المجتمع المصري من تغيرات صاحبت التحول من الملكية إلي الجمهورية، وما تبع هذا التحول من اضمحلال اقتصادي أرجعه البعض سببا في فشل الرؤى والاستراتيجيات، لكن بذور الفشل كمنت في التحول إلى سياسة التأميم الاقتصادي التي اتبعتها دولة يوليو.

نجح الكاتب المصري عمر طاهر في خلخلة أفكار الكثيرين عن أسباب الفشل الذي لاحق الشركات المصرية التي أممت، بعد ثورة يوليو، حيث رصد في كتابه الجديد الصادر عن دار الكرمة بعنوان "صنايعية مصر" قصص النجاح التي حققها اقتصاديون ورجال أعمال مصريون وأجانب في حقبة الأربعينات، وما قبلها، ثم جاءت قرارات التأميم المجحفة مطلع الستينات، لتقضي على هذه القصص، وتحولها إلى كوابيس، وحسرات لأصحابها، الذين وجدوا أنفسهم فقراء بين يوم وليلة، بعدما هوى سيف التأميم على ممتلكاتهم، أموالهم، وتحولت شركاتهم إلى خرابات.

يبدأ عمر طاهر كتابه بقصة رجل الأعمال حمزة الشبراويشي مؤسس مشروع "كولونيا 555"، أو ما تعودت أجيال على تسميته بـ "تلات خمسات" وهي الكولونيا التي صاحبت أجيال من المصريين في أفراحهم وأحزانهم، أعياد ميلاد وترمومترات وإغماءاتهم، الزجاجة التي كانت الجدات يحتفظن بها في حماماتهن، ويحتفظ بها الآباء في أدراج سياراتهم، يحكي عمر كيف كان الشبراويشي مخترع الكولونيا يزرع الليمون الذي يستخدمه في تصنيع الكولونيا، وكيف نال جائزة الملك فاروق لأفضل حديقة منزل وكان منزله في المعادي يقع في قطعة أرض تفوز كل عام بالجائزة، وفي عيد الأم كان يقيم نافورة في أرض المعارض تضخ الكولونيا طوال اليوم، على استحياء يشير طاهر مؤلف الكتاب إلى أن قرار تأميم مصانع الشبراويشي كان مؤجلا، لكن خوف الشبراويشي من القرارات التي صارت تنهال على رؤوس الاقتصاديين أصابه بجلطة، فسافر إلى سويسرا للعلاج، ومنها عاد إلى لبنان، ليفتتح مصنعا هناك، جعله أولا لتصنيع العطور، كبداية جديدة، ففرض عبد الناصر الحراسة على ممتلكات الشبراويشي.

من قصة الكولونيا إلى قصة "الشيكولاطة كورونا"، يمضي مؤلف الكتاب ليروي حكاية الخواجة تومي خريستو أول من أدخل صناعتها في مصر، يحكي طاهر عن سر عجينة الشوكولا التي وضعها خريستو، وكيف أنها تلتقط بسهولة مزاج من يطبخها، لكن مثل الشبراويشي، ينال سيف التأميم من المصنع عام 1963، ليديره ضابط، ومهندس مصري هو محمد رشاد ذكي الذي يشير طاهر إلى أنه حافظ على سر العجينة بعد خريستو الذي سافر إلى سويسرا ليستقر بها إلى الأبد بعد تأميم مصنعه.


من المفارقات التي يكتشفها قارئ الكتاب، أن قرارات التأميم لم تكن تستهدف فقط مؤسسات يملكها أجانب بغرض معاقبتهم على المضاربة في البورصة أو أي سبب من هذه الأسباب التي تسوقها الأنظمة في تعاملها المجحف مع رجال الأعمال الأجانب، إنما كانت تستهدف أيضا رجال الأعمال الوطنيين الذين اعتمدوا على أنفسهم وصنعوا مجد مؤسساتهم، ثم إذا بقرارات التأميم العبثية، تستهدفهم لمجرد أن أحدهم كان يدخن سيجارا كوبيا غالي الثمن، من تلك القصص يروي مؤلف الكتاب قصة صعود رجل الأعمال علوي الجزار ابن الحواميدية، الذي صنع للمصريين "شاي الشيخ الشريب" والذي كان رئيس مجلس إدارة مصنع كوكاكولا، واستطاع أن يثبت إنتاجها في مصر، كما كان لديه مصنع سجاد، وبلاط وموبيليا، وامتلك مزرعة كبيرة بشراكة مع أحد الخواجات، يقول طاهر: في بداية الستينيات، تولى علوي الجزار رئاسة نادي الزمالك، وكان أصغر من تولى هذا المنصب سنا، وصاحب أفل فترة رئاسة "عام واحد"، واستضاف في مرة من المرات منتخب "ريال مدريد" ليلعب مباراة ودية في القاهرة، ويشير مؤلف الكتاب إلى أن هذه المباراة كانت سببا في تعرض علوي الجزار لأذى التأميم، ويروي حكاية تشير إلى أن عبد الناصر كان يشاهد المباراة تلفزيونيا، وكان الجزار يجلس في المقصورة بجوار رئيس نادي ريال مدريد، وحدث أن أشعل كل منهما سيجارا فخما، فسأل عبد الناصر عن الشخص الذي يدخن السيجار بجوار الضيف الأجنبي، فقالوا له: علوي الجزار، فسألهم: ودا أممناه ولا لسه؟ فكان قرار التأميم.


وعلى الرغم مما يبدو عليه الكتاب موثقا للقرارات الغبية التي جرت في تاريخ اقتصاد مصر بحق بناة هذا الاقتصاد، وكبار رجالاته، إلا أن مؤلفه يطعم الكتاب بالعديد من قصص النجاح الباهرة، التي تشكل مع قصص انكسارات الاقتصاديين الكبار ما يشبه الفسيفساء المتلألئ، ومن هذه القصص قصة ناعوم شبيب، المهندس اليهودي الذي استعان به جمال عبد الناصر ليشيد برج القاهرة، سأل الأخير ناعوم عن توقعه لارتفاع البرج، فقال شبيب: أطول من الهرم الأكبر، ظن عبد الناصر إجابة شبيب دعابة، لكن حينما انتهى بناء البرج، كان يعلو الهرم الأكبر باثنين وأربعين مترا.

كما يعود طاهر في الكتاب لقصة أحد أبرز الاقتصاديين الذين عرفتهم مصر في فترة الخمسينيات والستينيات، وهو عبد اللطيف أبورجيلة، الذي اشتهر بكونه صاحب أتوبيسات أبورجيلة، وهي الأتوبيسات التي غيرت حياة المصريين منتصف القرن العشرين، خاصة بعدما أقر أبورجيلة على الكمسارية أساليب معاملة المواطنين بكل احترام وانضباط، كما كان هو من أدخل السيارات المرسيدس لأسطوله، وهو أول من وظف الفتيات في وظيفة "الكمسارية" يخط مؤلف الكتاب نصيحة أبورجيلة لراغبي الثراء، يقول طاهر على لسان أبورجيلة: إذا أردت أن تصبح مليونيرا، يجب عليك ألا تفتش عن المال، لكن فتش عن النجاح.. البحث عن النجاح سيقودك للملايين، لكن البحث عن المال قد يجعلك نصابا.

ينهي التأميم قصة أبورجيلة، وتتحول شركة أتوبيساته النظيفة المعقمة إلى هيئة النقل العام التي يعاني معها المصريون، فيغادر أبورجيلة إلى إيطاليا حزينا ويبدأ من جديد، بعدما حطم بلده مشروعه الهائل، وأصابه بالخزلان، وننتقل من حكايات أبورجيلة وغيره من رجال الأعمال الذين حطمتهم القرارات الفاشلة لدولة الضباط، إلى قصص إنسانية مآساوية لصنايعية الضحك والونس، والأمن والانضباط، والسلطنة، ومن أبرز ما يتوقف قارئ الكتاب أمام هذه القصص، قصة الضيف أحمد صنايعي ثلاثي أضواء المسرح، وقصة مصطفى إسماعيل صنايعي السلطنة، هنا يكتب عمر طاهر سيرة حياة الضيف أحمد والشيخ مصطفى إسماعيل بحس قصصي عال، جعل هذين الفصلين يسموان عن باقي فصول الكتاب، الذي اتسم بكونه سهل القراءة غير معقد، أو معطل، لكن الحس السردي الذي أضفاه مؤلف الكتاب جعل من سيرة الضيف وإسماعيل آلقا خاصا مختلفا عن باقي قصص الصنايعية.

وبجانب متن الكتاب، هناك متن مواز جعله طاهر يزخر بقصص أخرى للصنايعية أو تعليقات تلقاها من قراء، أو من أقارب أبطال الكتاب، مما أضفى على الكتاب تفاعلا مميزا، جعله ينتقل من مرحلة المعلومات المسرودة وفق بحث الكاتب وجهده في توثيق المعلومات، إلى مرحلة أخرى من عرض كل التفاعلات التي تلقاها المؤلف عقب نشر القصص في مقالات بالصحف التي يكتب فيها، ومنها الأهرام وغيرها، ومن ذلك الرسالة التي عرضها عمر طاهر في هامش قصة "محمد سيد ياسين ملك الزجاج ضد الكسر" والتي تلقاها من حفيده، يبلغه فيها شكره على دقة المعلومات التي عرضها عن جده الذي انتهت قصة حياته بالتأميم مثله مثل غيره من رجال الأعمال المصريين العصاميين الذين حطمتهم قرارات التأميم، ولم يلق ذووهم تكريما أو تعويضا من الدولة بعد انكسار أجدادهم.