"داليدا" لليزا أزويلوس: نجمة تواقة إلى الموت

روجيه عوطة
الأربعاء   2017/02/08
وتسلم نفسها لموتها: "سامحوني، الحياة لم تعد تحتمل"
لفيلم "Dalida" البيوغرافي، الذي أخرجته ليزا أزويلوس، (في الصالات، ابتداءاً من 9 شباط الحالي) منحى مأساوي للغاية. إذ يبدأ بفشل المطربة الشهيرة داليدا، التي أدت دورها عارضة الأزياء الإيطالية سفيفا ألفيتي، في الإنتحار، وينتهي بنجاحها فيه. وبين مسعاها إلى حتفها وحتفها إياه، تمر خلال إحدى المشاهد عبارة لهايدغر على لسان أحد عشاقها، وهو الرسام والممثل جان سوبيسكي، الذي مثل نيلز شنايدر شخصيته، متحدثاً معها بعد ممارستهما الجنس عن "الكائن من أجل الموت"، وهذا، بدون درايته بأنه يصفها، أو يصف مسار عيشها. 
فهذه النجمة، وعلى الرغم من ذيوع صيتها وصوتها كفنانةٍ الوجدان وآماله، كانت تكابد أشجان الحب خلف صورتها الإعلامية، لا سيما أنه كان يضعها في حيرة من وجودها، ويفرض عليها أن تختار بين شدته اتجاه الرجال الذين أولعت بهم وأولعوا بها، من ناحية، وتعلقها بالغناء، من ناحية أخرى. وعلى هذا النحو، نحو الإنشطار بين رغبتين عنيفتين، راحت تقترب شيئاً فشيئاً من أجلها، وذلك، إلى أن حققته.

على طوله، صور الفيلم داليدا مفصومةً بين دنياها الفنية، الذي برعت فيها من أغنية إلى أخرى، نظراً إلى وميض نبرتها، ورشاقة طلعتها، واتقانها لعدد من اللغات، ودنياها العاطفية، التي كاد إخفاقها فيها يكون كاملاً، من جراء معاكسة الظروف لها. فأغلب اللقاءات، التي جمعتها بعشاقها، وهم، بالإضافة إلى الرسام سوبيسكي، لوسيان موريس، ولويجي تانغو، وريشار شانفري، قد باءت بالخيبة القاسية بعد الفقدان المفاجئ، لا سيما أن ثلاث منهم، أي تانغو وموريس وشانفري، قطعوا، الواحد تلو الآخر، عيشاتهم برصاصة في الرأس. كان لتكرار الخسارات هذه أثراً في داليدا، التي ما كانت تخرج من موت عاشق حتى تدخل في حب غيره، لكنه، عاجلاً أم آجلاً، يقضي نحبه. بالتالي، وفي مرات عدة، كانت داليدا تلوم نفسها، وتجد أنها هي علة مصرعهم، الذي، وإن لم ينزل كهلاك صاعق، يحل كغيابٍ مرغم. 
لكي يربط الفيلم دنيا داليدا الفنية بدنياها العاطفية، عمد إلى قص مجرى أغنياتها من خلال عطفه على مجرى لقاءاتها، فحين تشهد على منية أو زوال، أو تتعرض لهما، كانت تجد في غنائها سبيلاً إلى عبورهما، والمضي قدماً إلى ما يشبه جولة وجدانية أخرى. في بعض الأوقات والمواقف، كان التباين يحضر جلياً بين دنيا الفن، حيث تكون داليدا النجمة، التي تلاحقها الإشاعات، ويترقبها الجمهور، ودنيا العاطفة، حيث تظهر واجمة، تتبع عشيقاً، أو تنشغل بموادعته، فهي لا تستطيع المساواة بين الدنيتين، مثلما لا تقدر على الإنعتاق منهما.

فحتى عندما كانت تواظت على قراءة "دليل الموت الصغير في متناول الأحياء" لغاستون وإيغون كابرون، وعلى الذهاب إلى الهند للدراسة على يد أحد الحكماء، وعلى زيارة عيادة التحليل النفسي، لم تكن تفلت من وجعها، الذي، وعندما كان يتفاقم، كان يصيب وجهها، ويقطعه نصفين أو أكثر. وربما، في هذا السياق، أفضل تعبير عن داليدا، مثلما أرادتها وأدتها رواية الفيلم، هو ذلك المشهد، الذي تظهر فيه أمام المرآة، وإلى جانبها لوسيان موريس، وما أن تتلقى طلب زواجه منها، حتى تغدو ثلاثة، الأولى، تقول له إنها ما عادت تحبه، والثانية، ترفض الإقتران به، والثالثة، الوسطى بينهما، تقبل. فمع أن الكاميرا جعلتها تواقة إلى الموت، الذي خطف أحباءها، لكنها، وبالفعل نفسه، أبدتها تواقة إلى معالجته عبر الغبطة السلسة، وعبر شد الأواصر مع الصحب، وعبر الإعتناء بمشتهى الجسد.
حافظ الفيلم، من مقطع مشهدي إلى آخر، على قول أساس، وهو أن وراء داليدا، هناك يولاندا كريستينا جيجليوتي ، ووراء النجمة، هناك شخصية تراجيدية، ووراء الأسطورة الذهبية، هناك حقيقة قارصة، ووراء الرقص على الخشبة، هناك سرير مرتب للتمدد في الحزن، وخلف "Je suis malade"، هناك جثة ودماء على كفي المصدومة بها، ووراء "حلوة يا بلدي"، هناك والد معتقل وميت، ووراء " Il venait d'avoir 18 ans"، هناك قصة حب مجهضة، ووراء "بومبينو"، هناك جهد للتخلص من الألم. وبعد كل هذا التمزق بين فن مشرق وعيش آفل،  بين غناء مشع وحب منطفئ، ثمة رسالة كتبتها صاحبة "laissez moi danser"، قبل أن تبتلع كمية من المهدئات، وتتجرع كأساً من الويسكي، وتسلم نفسها لموتها: "سامحوني، الحياة لم تعد تحتمل"... وها قد أدرك عذابها تلاشيه.