فندق "سان جورج": وكر الجواسيس الذي بناه مهندس شيوعي

محمد حجيري
الأربعاء   2017/02/22
السان جورج من مجموعة فؤاد دباس
صورة فندق السان جورج، من مجموعة المهندس الراحل فؤاد دباس، التي تعرض في متحف سرسق(*)، تثير القريحة للكتابة عن هذا الفندق ومكانه وتحولاته وجواسيسه، تلك الصورة العابقة بالنوستالجيا، تأخذنا الى صور أخرى فيها الكثير من السياسة والكثير من الجمالية والكثير من العنف، في مكان انقلب رأساً على عقب خلال عقود... وهو شهد الفيضان العام 1965، واغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وكان محطة للكثير من الأسرار.
صور الفندق وحدها تكفي لقول الحكاية، هنا حلقة أولى عن زمن الجواسيس.


"السان جورج"، هذا الفندق الشهير الذي صممه المهندس الراحل انطون تابت، العام 1929، وأنجز العام 1942. وتابت أحد مؤسسي مجلة "الطريق" اليسارية الشيوعية، والمتأثر بأوغيست بيريه، من أوائل ممهدي الطريق لفن العمارة في لبنان وسوريا. وبات السان جورج من اشهر العمارات في بيروت، في اعتبار انه شيّد بالباطون المسلح، وهو بناء مربع من خمس طبقات يضم 101 غرفة، يقع على شاطيء البحر في منطقة ميناء الحصن. وفي العام 1945، أقام صليبا الدويهي معرضاً فردياً في السان جورج، واعتبر في ما بعد أهم معرض له في لبنان، وكان موضوعه القرية والوديان، وبيعت لوحاته كلها، وقد افتتح المعرض آنذاك رئيس الجمهورية الشيخ بشاره الخوري الذي كان أول رئيس جمهورية لبناني يفتتح معرضاً فنيّاً. تميّز المعرض برسوم الفولكلور اللبناني التي تشبّع بها الدويهي بعدما زار معظم المناطق اللبنانية وجسدّها في لوحات فنيّة.

انتقل الفندق في العام 1960 الى رجل الاعمال اللبناني عبدالله الخوري الذي اشترى غالبية أسهمه من مصرف سورية ولبنان الذي كان مقره باريس. ونصّ أحد بنود عقد البيع على أن يبقى مدراء الفندق المتعاقبون من الرعايا الفرنسيين... وكان عدد العاملين فيه يفوق المئة في العام 1975، قبل اندلاع الحرب اللبنانية التي وضعت أوزارها العام 1990، لكن القوات السورية تمركزت في الفندق حتى العام 1996. ومنذ بدء إعمار وسط بيروت، بدأ الخلاف بين إدارة الفندق وشركة "سوليدير"، وحتى الآن الفندق لم يرمم بعد تفجير شباط 2005.

واشتهر السان جورج بما يوفره من رفاهية. وعلى مر السنين اصبح بار فندق السان جورج، ملتقى رجال السياسة اللبنانيين والسفراء والملوك، مثل محمد ظاهر شاه ملك افغانستان، والملك الأردني حسين. كما كان مقراً للمشاهير، أمثال المغني الفرنسي شارل أزنافور، والجاسوس البريطاني كيم فيلبي، ونجوم هوليوود من امثال اليزابيث تايلور وريتشارد بورتون، بالاضافة وفنانين عرب مثل ام كلثوم.  

واعتبر السان جورج على مدار ربع قرن، واحداً من أهم سبعة بارات فندقية في العالم، ومركزاً لرجال الأعمال والسياسيين والإعلاميين العالميين الذين وجدوا في أجوائه الهادئة والمريحة ظروفاً ملائمة لتبادل الخدمات الظاهرة والمستترة وعقد الصفقات الكبرى في ميادين السياسة والحب والجاسوسية والاقتصاد. فمقهى "السان جورج" العنوان الدائم لكبار الصحافيين، من المصري محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة "الأهرام"، الى اللبنانيين سليم اللوزي صاحب مجلة "الحوادث"، وعفيف الطيبي رئيس تحرير جريدة "اليوم"، وحنا غصن رئيس تحرير جريدة "الديار"... إضافة الى عدد من الصحافيين الذين عملوا في الوقت نفسه كأبرز عملاء للاستخبارات الغربية والاقليمية. ومراسل صحيفة "كونتيننتالي"، المصري خيري حماد، كان من أبرز عملاء الاستخبارات المصرية، وقد عمل على نسج علاقات واسعة مع عدد كبير من السياسيين اللبنانيين، ومع ضباط أمنيين في المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية. 

ويسرد الصحافي سعيد أبو الريش قصصاً عن جواسيس "السان جورج" (**)، والأنشطة الأمنية الأميركية والأجنبية في بيروت، وعن مؤسسات أميركية تتخذ طابع العمل الإنمائي والثقافي، وكانت في الواقع تهدف الى جمع المعلومات وتحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية في عيون العرب. وبقي الأشهر هو الجاسوس فيلبي، الذي ما زال الغموض يلف اسرار تهريبه من بيروت، وكان من أبرز عملاء الاستخبارات البريطانية والسوفياتية في الوقت نفسه. ويحاول كتاب سعيد ابو الريش، فك هذا الطلسم، فيذكر ان فيلبي، بعد استقراره في موسكو، أبلغ فيليب نايتلي من "صاندي تايمز"، بأن الاستخبارات البريطانية سمحت له بالهرب لتحاشي اعتقاله ومحاكمته التي ستؤذي حتماً كبار أركان جهازها. كان "البارمان" (النادل) اللبناني، ينقل إلى الأمن العام كل ما يسمع ويرى. وبعد تقاعده في كاليفورنيا، لحق به ابو الريش إلى لوس انجيلس، ليستطلعه اخبار الماضي، فرفض البوح بما يملك من أسرار.  

كان الفندق يحتوي منتديات شهيرة. فبلاج "سان جورج" الملحق بالفندق، كان مقصداً للبورجوازية اللبنانية السياسية والاجتماعية. اما السياسي المداوم على السباحة يومياً في "سان جورج"، فكان ريمون إده، العازب الأشهر في زمانه.

يقول الصحافي سمير شاهين(***): ومن ذكريات بلاج "سان جورج"، أتذكر ان النائب  السابق مخايل الضاهر تعرف الى زوجته في هذا البلاج. اما هنري فرعون السياسي والمالي الشهير، فكان يُشاهَد يومياً في احدى الزوايا يلعب "الطاولة" النرد على مبالغ كبيرة مع ميشال نادر مستثمر البلاج. وكان السفير عبدالرحمن الصلح بين اكثر الوجوه السياسية المترددة على هذا البلاج. اما كامل الأسعد، فكان يؤثر السباحة في بلاج محدود الحجم، يقع في الجانب الآخر من الفندق تحت اسم "إيليت" Elite حيث كان يمارس أيضاً لعبة التنس.

الى جانب بلاج "سان جورج" الذي احتل حديقة صغيرة ظليلة عند مدخله، كان في الطابق الاول من الفندق، مطعم راق يشتهر بمآكله الفرنسية وبأنه كان يستورد اللحوم من باريس يومياً بالطائرة. وفي طليعة السياسيين الذين كانوا يلتقون فرادى او شللاً، في شرفته البحرية صيفاً او في قاعته الداخلية شتاء، ريمون إده، وصائب سلام مع حاشيته، ورشيد كرامي ورينيه معوض معاً في شكل دائم، وكامل الأسعد وحيداً.
 
(*) "زر بيروت: بطاقات بريدية وأدلة سفر من مجموعة فؤاد دباس" (من 24 شباط حتى 5 حزيران 2017). 

(**) "بار السان جورج، وكر الجواسيس في بيروت"، منشورات رياض الريس.
 
(***) كاتب وصحافي لبناني دوّن ذكريات المقاهي والصحافة، في كتابه "سنوات الجمر".