"خمريات" أبي النواس و"سيجاريات" بول شاوول

روجيه عوطة
الأربعاء   2017/02/15
بول شاوول: "إذا كنت صنماً فحطموني".
منذ سنوات، نشر "ملحق النهار" حواراً مع الشاعر بول شاوول، حيث جاءت على لسانه عبارة، هي، وفي حال كانت الذاكرة نشيطة: "إذا كنت صنماً فحطموني". ومنذ أيام، نشرت "الأهرام" مقابلة مع الشاعر إياه، وفي معرض أجوبته، قال إنه، وأسوةً بأبي النواس، صاحب "خمريات"، كان قد كتب "سيجاريات"، وأضاف ضحكة، أشار إليها سامعها، الصحافي، كتابةً بـ"هههه". 

قد يصح إنتقال الشاعر من الجدية، التي اتكأ عليها ليدّعي العَظمة ويأمر بتجاوزه في إثرها، إلى تعظيم الذات بالهزء بها، ليردف بقهقهة مسجلة برمزها، طريقاً يحمل على الإلتفات السريع إلى الشعر في بيروت. ذلك، أن ممارسيه السابقين، والمتمثلين بهم، غالباً ما يبدو أنهم يواظبون على فواته، أو على الإقامة في وقت ليس معداً له، وللإحتفاء به. بالتالي، هم يشكلون رهطاً من المسلوبين، ومن العاطلين عن الحضور في الرجاء الميديو-ثقافي وتصوره، إذ يلبدون به كظلالٍ، كأخيلةٍ. وهي إن لم تكن مكسورة، فهزيلة، أو خائبة، من جراء صلتها الشديدة والمفقودة به. فبعدما كانوا كهنة "الوجه الثقافي" للمدينة، انكفأوا عنوةً أو طوعاً، وما عادوا يظهرون في المرآة أمامه.

لا شعر في بيروت، أو، على الأقل، لا وطأة له، وربما، الرغبة في كتابته هنا من جديد تستلزم من المعترى بها أن يكون في وفاق مع الوحشة، وفي وئام مع الإنقطاع، فنصه سيحل نافلاً وعلى إنزواء، مثلما سيظهر كأنه من صنيع الخلوة، التي ستودي قراءته إلى خرقها. كتابة الشعر الآن هي الكتابة، لأنها، وقبل الشروع فيها، تشترط على منجزها أن يمهد لها بالإطمئنان إلى غيابه قبل إطمئنانه إلى بيانه، وبالتصالح مع تواريه قبل تصالحه مع طلوعه.

لكن، للراغب في الشعر الآن وهنا، ومن أجل تأكيد غربته النصية، أن يجد في الإرث، الذي تركته الظلال والأخيلة له، رماداً لجثة ماتت كثيراً، وتحللت كثيراً، لدرجة أن نقلها الى المعاينة قريب من نقلها إلى حجرة التشريح لجمع علامات حتفها، والوقوف على مرده، أو أنه قريب من نقلها إلى المقبرة درءاً لنكرانها. انطوى هذا الإرث الجثثي على تجارب وسرديات، قامت بشارع ومقاه وأمسيات وصفحات جرائدية، وارتبطت بقداس "هتك المحرم"، وعبادة البلاء أملاً بـ"وحي" الإبداع، والمجاهرة بالتعاسة، وترسيخ الكرب، وحب الشقاء، وستر التعثر في المألوف بنسخه، والتبشير بالإستيهام، والدعوة إلى التوهان. 

فقد غدا هذا الإرث في نهايته كأنه سوق الضرر، الذي جاوره ثان، وهو سوق الشخوص المنبري الركيك والكليل، الذي لا يحقق غايته سوى في شحنه لإجتماع أهلي، أو في إرضائه له. بدأ هذا الإرث، بكلا سوقيه، بكمٍّ من الخرافات، وانتهى بجثمان هالك، ومع ذلك، ما زال بعض حراسه، يدركونه، ويتحدثون عنه بالطريقة نفسها، التي أوصلته إلى إندثاره. أما البعض الآخر منهم، فعلم بمنيته، واستبدل نبرة الغرور الجاف بنبرة التهكم التبجيلي.

لا تحتاج بيروت إلى الشعر، وهذا ما يعينه على الوجود فيها على سجاياه، وعلى نواحيه، وذلك، بلا أن يجري إقحامه في أسطرتها، أو في التفجع على فقدانها لحظوتها. فألا تكون هذه المدينة في حاجة إلى الشعر، وهي كانت على هذا الوضع دوماً، يعني أن زمنه قد حان، مثلما أن مكانه قد لاح، حيث بمقدور كتّابه أن يمارسوه بلا هجس في توطيد مشهد آنف، أو تشييد تيار لاحق، أو تلويح بخلاص متخيل.

على أن الشعر، وفي حال تكرار تفشيه بعد تلاشي جثمانه الماضي، سيكون مجموعة من الجزر، التي تهرب إليها كل كتابة، ومن أي طرز كانت، لتتلافى دفع ضريبة نشرها من أسلوبها، أو لتتجنب النظر إليها كمجرد آثار أدبية لواقعات سياسية، أو كمدونات خاصة عن شؤون عامة. وعندها، لن يكون الشعر "أندرغراوندي"، بل، بمثابة ملاذ براني، لا مركزية، ينشدها، أو يناهضها: مكتوب في بيروت وغير مكبوت بها. وبذلك، سيثبت أنه أول الكتابة، لأنه، الآن، آخرها، لأنه مهمل من مثواها.