قضم فلسطين

محمود الزيباوي
الجمعة   2017/12/08
في العام 1995 أقرّ الكونغرس الإسرائيلي قانوناً اعتبر القدس رسمياً العاصمة "التي لا تقبل القسمة" لإسرائيل، ودعا إلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس قبل مايو/أيار 1999. وفي خطوة لم يتخذها أي رئيس أميركي من قبل، قال دونالد ترامب في خطاب ألقاه مساء الأربعاء: "قرّرت أن الوقت حان لأن نعلن رسمياً الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل"، ووقّع رسمياً على هذا القرار. 

تزامن هذا الإعلان الأميركي الرسمي مع استمرار الاحتفالية الإسرائيلية بمئوية وعد بلفور، وأثار موجة من ردود الأفعال العربية والدولية الرافضة له، وانتقد البعض هذه الخطوة، وحذّر من تبعاتها، تماماً كما حدث في الماضي على مدى عقود من الزمن. في الأمس القريب، كانت "فلسطين على كل فم"، كما غنّى محمد عبد الوهاب. ومع توالي الهزائم، غرق العرب في حروبهم الداخلية، وتناسوها. هكذا جاء قرار ترامب بعد قرن من الهزائم العربية، وخرج من الظل إلى النور في زمن غابت فيه فلسطين التاريخية، وأضحت شبه دولة هشة لا تمثل سوى جزء بسيط من مساحتها الجغرافية الطبيعية.

في العام 1944، نشر اميل زيدان في مجلة "الاثنين" المصرية مقالة بعنوان "فلسطين أولاً" حذّر فيها من ضياع القدس، وخاطب القارئ العربي مباشرة، وقال: "لا تظنن أيها المقيم في مصر أو في الشام أو العراق أو غيرها من البلاد العربية أن قضية فلسطين لا تمسّك إلا من بُعد، وأن عطفك عليها ليس من قبيل العطف الأفلاطوني على جار يتألّم، بل فاعلم أن قضية فلسطين هي في الواقع قضيتك بالذات، وأنه لا قيام لأيّ اتحاد أو تحالف بين البلدان العربية ما لم تحلّ تلك القضية حلاً عادلاً في مصلحة أصحاب البلاد من العرب". رأى الكاتب أن الصهيونية تشكّل خطرا مميتا على فلسطين يتمثّل بهجرة اليهود المستمرة، وأضاف: "قلنا إن نسبة اليهود في فلسطين كانت ستة أو سبعة في المئة قبل الحرب الماضية، ثم أصبحت الآن نحو 33 في المئة. أنظر إلى الرقمين تُدرك الباعث على توجّس العرب، فقد كان الزمن عدوّهم، ولو استمرّ ازدياد اليهود سنوات أخرى لصاروا هم أصحاب البلاد، ولأصبحت فلسطين دولة يهودية بحتة. وهذا هو في الواقع ما يرمي إليه الصهيونيون، فإنهم، بالقلم العريض، لا يريدون حلاً من دون هذا الحل. إنهم يريدون إنشاء دولة يهودية يكونون فيها أصحاب الشأن غير منازَعين".

قبل صدور هذه المقالة بسنوات، ومع احتدام المواجهات بين المهاجرين اليهود والعرب الفلسطينيين في زمن "الثورة الكبرى" التي تواصلت فصولها بين 1936 و1939، أطلقت "لجنة السيدات اليهوديات في فلسطين" نداء إلى السيدات العربيات "يتضمن استنكاراً لأعمال العنف التي يقوم بها العرب، واستنفاراً لهن الى الاعتصام بروح السلام وإلى التأثير في أزواجهن حتى يترفّعوا عن أعمال العنف التي ستؤدي إلى القضاء على روح الصداقة، وإلى احياء روح الجريمة بين الصغار". أُرسل هذا النداء إلى الجمعيات النسائية في بيروت، فردت السيدة سلمى الصائغ عليه في مقالة نُشرت في مجلة "الجمهور" اللبنانية في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 1936. جاء هذا الرد في شكل رسالة موجهة إلى أ.لندمان، و"هي سيدة روسية الأصل تنتمي الى حلقة من الصهيونيين يدرسون العربية، ليكونوا صلة التفاهم بين العرب واليهود"، ويبدو انها كانت من طلاب سلمى الصائغ.

وجّهت سلمى الصائغ رسالتها إلى تلميذتها أ.لندمان، كي تنقلها إلى العبرية، واستهلّت حديثها بالقول: "أما الفتنة الصاخبة قرب مهد المسيح وجامع الصخرة وحائط المبكى، وكنت بها نذيرة ساعة جلسنا معاً يوم عيد الفصح الى الزعيم الصهيوني في الوكالة اليهودية. هل تذكرين؟ لقد شرحت صعوبة التفاهم على أساس وعد بلفور الآثم، هذا التفاهم الذي تنشدينه انت وزعيمات الأحزاب النسائية الصهيونية وسائر اليهود المعتدلين، وتريدون منا ان نعمل في سبيله حبّاً بالسلام المحلي والسلام العالمي والإنسانية الجريحة. السلام العالمي؟ اسمعي يا تلميذتي وصديقتي، وانقلي ما أقول إلى اللغة العبرية فيقرأه اليهود". تطرّقت سلمى الصائغ في خطابها إلى مسألة الوطن اليهودي على أرض فلسطين، وقالت: "وطن قالوا لكم أنه خالٍ من الناس، وانه ينتظركم حتى تجعلوا منه وطناً، وإذا به مليء بأصحابه من أولاد ونسوة ومن نفوس عزيزة تخفق في صدور رجال يريدون مثلكم تماماً أن يكون لهم وطن، مع هذا الفرق الضئيل، وهو أنهم يدافعون بصدورهم العارية الفقيرة، إلا من الكرامة، عن وطن شرعي، بينما تريدون أن توجدوا لكم وطناً في قلب وطنهم".

بعدها، تطرّقت سلمى الصائغ إلى مسألة "السلم العالمي وجهاد النساء في سبيله"، وقالت: "ذكرتني جرائد الصباح بهذا الجهاد، الهزيل، المشلول، المبكي، والمضحك معا. كبرت كلمة السلام، يجترّ بها فم هذه الإنسانية المجرمة الفاجرة". وأضافت ساخرة بمرارة: "أما روح الاجرام التي تخاف المرأة اليهودية من يقظتها؟ فهل هي كامنة في صدورنا تنفجر لأقل بادرة؟ أم هي من صدارات هذا القطر الوادع؟ لقد قسّموا هذا الوطن كما أرادوا، وسيطروا على منابع نفطه وموانيه، واحتكروا مرافقه وموانيه. وأبواب الرزق مفتوحة لكل غريب ولاجئ، فمن شاء جاء وأنشأ له كيانا حرا مستقلا. وإذا ما تململ هذا الوطن سمّوا هذا التململ اعمال عنف وإرهاب، وإذا ما قطع شجرة في ساعات يأسه المقدس أو أحرق بيتا ثار العالم يندّد بروح الاجرام. روح الاجرام؟ دعيني أقول لك، يا تلميذتي وصديقتي، انها كامنة في وعد بلفور. فتنازلوا عنه، من تلقاء نفوسكم، ينته ما بيننا من احتراب وشحناء".

في ختام هذه الرسالة، رأت سلمى الصائغ أن البلاد تتسع لأهلها وللغريب "شرط ان يندمج بهم هذا الغريب وينسجم، ويتّخذ من ايمانهم الوطني ايماناً، ويتعرّب لغة وثقافة وحساً، ويكون معهم يداً على الدهر". ويمكن القول ان هذا القول يعكس الخطاب العربي في هذه المرحلة. اشتعلت العرب العالمية الثانية، وانتهت باستسلام الألمان في مايو/أيار1945. استؤنفت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وجاهر الكثيرون من أصحاب الرأي العام في بريطانيا بتأييدهم قيام دولة يهودية على ارض فلسطين. أعلنت الأمم المتحدة بشكل رسمي مشروع تقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني1947، ورفض العرب هذا التقسيم.

من القدس، أرسل المدعو سليمان مصطفى مقالة نُشرت في مجلة "الصباح" المصرية في منتصف حزيران/مايو يشرح فيها لماذا يرفض العرب "تقسيم فلسطين كحل للقضية الفلسطينية"، وقال: "لماذا نرفض هذا الحل القرقوشي الباغي؟ نرفضه لأن فيه شقاءنا وتعاستنا. نرفضه لأنه طوّق الحديد في اعناقنا. نرفضه لأنه أقرب طريق الى تهويد بلادنا وانتزاعها من أيدينا. فإذا لا سمح الله ولا قدر نُفّذ هذا المشروع المنحوس، سيكون لليهود نصيب الأسد من بلادنا، بلاد آبائنا وأجدادنا، سيكون لهم أخصب بقاع فلسطين، السهل الساحلي ومرج ابن عامر، أما نحن فنصيبنا من بلادنا الجبال الجرداء والأراضي القاحلة. ستقام دولة يهودية تمدّها الرأسمالية اليهودية وأميركا وبريطانيا نفسها بالمال والرجال والمصانع المختلفة والأسلحة الفتاكة، وفي ذلك الخطر كل الخطر، والبلاء كل البلاء، على البلاد العربية جميعها".

تابع سليمان مصطفى حديثه، وقال: "ستنفتح أبواب بلادنا على مصراعيها للمهاجرين اليهود، ولا يمضي عام واحد حتى يصبح عدد اليهود في بلادنا بالملايين، وبالطبع ستضيق باليهود منطقتهم، فيتسربون إلى منطقة الحكومة بمساعدتها ويهيمنون عليها، حتى إذا تم ذلك، وتمامه سيكون بين عشية وضحاها، هبّوا من جديد، ومن ورائهم بريطانيا وأميركا، يطالبون بإلغاء التقسيم الجائر في حقهم، وبإنشاء حكومة ديمقراطية في فلسطين، وبالطبع ستتظاهر بريطانيا برفض مطالبهم، ضحكا على ذقوننا، فيثورون ثورة، المدلّل المدلّع، على أمهم بريطانيا الحنون، حتى اذا ما استفحل أمر ثورتهم بمساعدتها أقرّت بعجزها عن حل القضية المعقدة، وحينئذ تتخلص منها بإحالتها على هيئة الأمم المتحدة، فتحكم الهيئة الموقرة بمشروعية مطالب اليهود. وهنا ينتهي الفصل الثاني من رواية الدولة اليهودية في فلسطين، وبانتهائه تكون هذه الدولة اليهودية عقيدة ثابتة، لا مجرد حلم وخيال وحينئذ نصبح نحن عرب فلسطين شذاذ الأفاق وطريدي الأمم".

تحقّق كل ما قيل في الثلاثينات والأربعينات بسرعة. انتهى "الفصل الثاني من رواية الدولة اليهودية في فلسطين" مع نكبة 1948، وتلاه فصل ثالث انتهى مع هزيمة 1967، وبات "عرب فلسطين شذاذ الأفاق وطريدي الأمم". في أيلول/سبتمبر 1993، وقّعت منظمة التحرير مع إسرائيل "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي" وسعت إلى إقامة "بيت قومي" على ما تبقى من فلسطين، وتابعت إسرائيل سياسة القضم كما في السابق. 
واليوم، يقف دونالد ترامب ويعلن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل ويصف هذا التحرك بأنه "خطوة متأخرة جدا" من أجل دفع عملية السلام في الشرق الأوسط والعمل باتجاه التوصل إلى اتفاق دائم.