"أميركا سكوير"..النوايا الحسنة لا تكفي

محمد صبحي
الأحد   2017/12/03
فيلم شعبي نحتاجه في بعض الأوقات التي تشبه الوقت الذي نعيشه الآن.

أثينا 2016. ثلاث شخصيات تتداخل مصائرهم في تراجيديا إغريقية حديثة. ناكوس، نموذج مثالي للمواطن اليوناني العنصري الذي يضع نفسه في خانة الضحية بعد وفود اللاجئين إلى الحي الذي عاش ونشأ فيه. طارق، نازح سوري يبحث عن طريقة للهرب من اليونان رفقة ابنته الصغيرة. بيلي، صاحب بار/كافتيريا يملك فوقه محلاً غير قانوني لعمل الوشوم، يدخل في علاقة حب مع تيريزا، وهي مغنية أفريقية تبحث أيضاً عن طريقة للهرب عبر البحر كي تصل إلى قلب أوروبا. بهذا التقديم يُدخلنا المخرج اليوناني يانيس ساكاريدس في قلب حكاية ثاني أفلامه الروائية الطويلة "أميركا سكوير"، والذي افتتح النسخة العاشرة من "أسبوع الفيلم اليوناني في بيروت" (من 30 تشرين الثاني وحتى 3 كانون الأول). قصة كورالية تقارب مواضيع الهجرة والنزوح والأزمة الاقتصادية اليونانية، تندرج تحت عناوينها البارزة حكايات أخرى عن نوستالجيا الماضي الجميل والحلم بغد أفضل وقبول الآخر وفاشية الحياة اليومية واستغلال الألم البشري وتجارة الحدود والعنف.

مقارنةً مع ما تطالعنا به السينما اليونانية المعاصرة وأفلامها المحتفى بها عالمياً في المهرجانات الدولية (لنفكر في "ميس فايولنس" لإلكساندر آفراناس، أوفي "شافلييه" لأثينا تسانغاري، أو في الفيلموغرافيا الكاملة ليورغوس لانثيموس)؛ يأتي "أميركا سكوير"، ثاني أفلام ساكاريدس الروائية الطويلة، بمثابة منتج غريب السمات خالٍ من ذلك الإصرار الديناميكي على السادية والعنف الذي يطبع عوالم زملائه الأكثر شهرة، ومعتمداً هيكلاً بنائياً مختلفاً لا يجد غضاضة في الاستعانة بتقنيات المسرح الحكائية أو استعارة نمط تشويقي هوليوودي في تقديم موضوع معقد وشائك.



ينفتح الفيلم مع صوت من خارج الإطار يخبرنا حكايته مع الميدان/الساحة الذي يحمل الفيلم اسمه. وبهدوء، يؤسس لسرديته التي تلعب فيها المصادفات والقدرية دوراً بارزاً في التقاء التمثيلات البشرية لأزمة الهجرة المتزايدة إلى شواطئ اليونان، مع أقرانهم المأزومين على الجانب الآخر من الشاطئ بفعل أزمة اقتصادية طاحنة أدت إلى تفكك الطبقة الوسطى اليونانية. يلتقي المهاجرون والنازحون من مناطق الصراع والكوارث الإنسانية بأهل البلد المضيف، في المناطق الرمادية للاجتماع الإنساني، حيث تطفو كافة المشاعر الممكن تصوّرها. وفي الأثناء، ينمو إحساس داخل الغريب الوافد، الذي لا يرى في هذا البلد سوى محطة ترانزيت تنقله إلى أوروبا الحقيقية لا أوروبا المثقلة بهزائمها، مشاعر متضاربة حول ماضيه وما ينتظر مستقبله الغائم. بينما في مقلب آخر من الحكاية، ثمة حياة معطلة لمقيمين يبحثون عن أي "مصلحة" وافدة تأتي لهم بالمال في بلد تنهكه سياسات التقشف المفروضة أوروبياً. وفي الوسط، هناك دائماً يد أوروبية عطوفة وحانية تتعهّد اللاجئين والفارين من أوطانهم الطاردة بما تستلزمه تلك الأوقات الصعبة من مساعدة ورعاية وتفهُّم. هي معضلة مستعادة من زمان الأساطير اليونانية القديمة، لكن بروافد أكثر واقعية ومآسٍ لم تجد عيناً قادرة على ترجمة حقيقة الكارثة المحدقة بالجميع.


يفعل الفيلم ذلك بنية حسنة وقصة مألوفة وأسلوب روتيني، يدين كثير من تطوراتهما السيكولوجية وارتباطها بالأحداث إلى الفيلم الأوسكاري "كراش" للسينمائي الكندي بول هاجيس، لكن من دون الانتهاء إلى المبالغات الميلودرامية التي حملها الفيلم الهوليوودي، بل يطعم الفيلم اليوناني حكايته بتقاطعات مع خطابات الميديا وحالات العلوق الحياتي والمرارة العامة المنتشرة في أجواء حيّ صغير في قلب عاصمة عريقة لبلد أووربي يعيش على وقع أزماته المتفاقمة. بالإضافة إلى ذلك، يتشارك كل واحد من الشخصيات الرئيسية الثلاث في الفيلم، خيبة أمل شخصية، تقوم بمهمتين في تطوير حكاية الفيلم: تعمل كقرينة للشخصية ودالة عليها، وتعمل كقوة محركة ودافعة في تحديد مصيرها. ناكوس، العاطل عن العمل، يحمله انسداد أفق حياته إلى مراكمة كراهية قاتلة للمهاجرين. بينما بيلي، الفنان صاحب الروح الطليقة المغامرة، يقع في حب واحدة من هؤلاء المهاجرين ويساعدها ويحميها، لكن إدراكه لاستحالة إطالة أمد تلك العلاقة يجعله أسير معضلة وجودية. أما طارق، فليس من المصادفة أن يختاره الفيلم ليكون أكثر الشخصيات الثلاث تعليماً، ولكنه أيضاً الشخص الذي يعيش في الظروف الأكثر حرماناً على أمل الهروب نحو ألمانيا بأي طريقة ممكنة.


نتيجة لذلك النهج، قد يبدو "أميركا سكوير" محصوراً ضمن حدود الصواب السياسي والتقدمية التعليمية ومكافحة خطاب الكراهية الأوروبي، بما يعنيه ذلك من انتقاص لقيمته الجمالية، ومما يفسّر أيضاً تجواله على عدد من المهرجانات الدولية -آخرها مهرجان القاهرة- ووصوله إلى بيروت حالياً. رغم ذلك، لا يمكن للمتفرج في الوقت نفسه إنكار فعالية النص السينمائي، المستوحى من رواية "فيكتوريا لم تعد موجودة" ليانيس تسيربا، والذي تشارك ثلاثة من الكتاب في صياغته، فليس من السهل الوصول إلى سلاسة ربط القصص ببعضها البعض وتقديم حلول درامية مقنعة لذلك الربط (رغم أن تلك النقطة غير موجودة للأسف في الماستر سين الرئيسي للفيلم). فضلاً عن الإحالات الرمزية التي يقدّمها الفيلم، سواء عبر الميدان وتاريخه الحافل بالشهرة والعراقة، أو من خلال إبراز الوشوم والاستفاضة في الحديث عنها باعتبارها موضوعاً يتجاوز ذاته وربطها بأسئلة النسيان والذاكرة والمحو والوجود والنجاة، أو حتى من خلال الخبز الذي يتبدّل دوره الوظيفي كلية في الأيدي العنصرية.

"أمريكا سكوير"فيلم جيد، قديم الطراز، تعليمي، قاس إلى حد ما، بسيط أحياناً وتبسيطي في أحيان أخرى. فيلم شعبي/جماهيري نحتاجه في بعض الأوقات التي تشبه الوقت الذي نعيشه الآن.


(*) عرض"أميركا سكوير" في افتتاح"مهرجان الفيلم اليوناني في بيروت" في سينما "متروبوليس أمبير صوفيل"، وأعيد عرضه مساء السبت 2 كانون الأول.