"أضواء مراوغة"... خلوة في مواجهة الذاكرة والعنف

ميريام دلال
الخميس   2017/12/21
داخل جلبابه بحثاً عن السلام.

تذكر الفنانة والاستاذة الجامعية عفاف زريق، يوم طلبت من تلامذة صفها الاختيار بين مجموعة من البطاقات البريدية التي تحمل كل منها صورة لوحة أو عمل فني معروف. لطالما استخدمت زريق تلك الطريقة لتتعرف بها على تلامذتها بشكل أفضل من خلال النوع الفني الذي يستهويهم. يومها إختار التلميذ رامي صعب "أكثر اللوحات تعقيداً" بحسب زريق، للفنان الفرنسي هنري ماتيس والتي كانت عبارة عن رسم لوجه زوجته. يومها عرفت زريق أنها تتواصل مع انسان خلاق واستثنائي.

تخرج صعب بدرجة البكالوريوس في الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية  في العام ٢٠١٤ كما حاز دبلوم في الفنون وتاريخ الفن، الأمر الذي ساعده وبحسب تعبيره على فهم الترابط بين التصميم والفن والتاريخ بشكل أفضل. يعتبر المصمم الشاب بيروت مظهراً للتناقضات، وفي الوقت ذاته فهي الكيان الملهم للمساحة والتصميم. لم تكد تمر السنوات حتى أثبت التلميذ حينها، والمهندس المعماري والمصمم اليوم رامي صعب أنه أهل للثقة، وذلك نتيجة التعاون الفني الذي جمع مؤخراً بينه وبين الفنانين عفاف زريق ونويل نصر.


يستكشف المعرض التعاوني الذي افتتح بعنوان "أضواء مراوغة" (Shifting Lights)” في "بيت بيروت"، العلاقة المتشابكة بين أعمال كل من الرسّامة زريق والمصوّر الفوتوغرافي نصر وتجهيز المهندس المعماري والمصمم صعب، إذ يتألف المعرض من تسع تركيبات دائرية الشكل مصنوعة من مطبوعات لصور فوتوغرافية ذات شفافية معينة، تمكن المشاهد خارج تلك المجسمات من رؤية ما في الداخل وليس العكس. تتوسط كل من تلك المجسمات الضخمة والتي تمتد من السقف حتى الأرض، لوحة لوجه خطوطه عدائية. تتشابه نوعية الإضاءة الخافتة داخل تلك الخلوات الفنية، بتلك المختارة لإضاءة صالة العرض في "بيت بيروت".

تظهر أعمال نصر المطبوعة على هياكل دائرية، صور شبه مجهرية لقماش لوحات زريق. يطغى في تلك الصور لون ال sepia المرتبط بالذكريات، ونوستالجيا النظر إلى الصور العائلية القديمة، التي حولتها عوامل الطبيعة والوقت إلى شواهد بنية/صفراء. في قرب المصور من تلك اللوحات مسعى استقصائي بحثاً عن دلائل تحل لغز جريمةٍ، استبدل فيها الدم ببعض قطرات لون ممزوجاً بالفحم. في بحث نصر في التفاصيل تشابه مع اعماله السابقة منذ بدايته في "العملية رقم ٩" بجزأيه الأول والثاني، فالمصور ما زال يعمل في نفس الفلكية ليمثل الجزء بالكل، ويدعو في فضوله النظري خلف التفاصيل، إلى البحث عن الأجوبة الكبيرة المتعلقة بالحرب وما ينقل عنها. تأخذ اليوم أسئلة نصر الصغيرة الكبيرة شكل مطبوعات أكبر من أن يتم تجاهلها والحؤول دون التساؤل عما تمثل.

عادةً ما تشكل القوقعات الحلزونية الملاذ الأمن، ولكنها هنا تجسد عكس ما تشبه: في دوران المشاهد داخلها، دعوة لمواجهة لوحات الفنانة التشكيلية المتشابهة في قساوة وجوهها، وضربات فرشتها العصبية على سطح القماش: أين الأمان والسكينة في النظر إلى شاشات التلفاز العربية التي ما فتئت تعرض نفس الصورالمقلقة والصادمة على مدى اعوام؟ لم يكن من الممكن الخروج من العرض دونما التفكير بصورة رقص الدراويش الصوفيين، ولكن هنا، تعرى المتصوف من ثوبه وادخلنا لندور داخل جلبابه بحثاً عن السلام. يحمل "أضواء مراوغة" تناقضات يضع فيها تجهيز رامي صعب، الناس في مواجهة صورة العنف الخارجية في الداخل، وخصوصية تفاصيل التحقيق المجهري خارجاً مذيباً الحدود بين العتمة والضوء.

يوضح البيان الصحفي العلاقة مع موضوع مراوغة الضوء في العرض، ويربطها بمراوغة المساحة على المستويَين الجسدي والعاطفي، ليختم بتحميل التجهيز مسؤولية فتح النقاش حول والذاكرة والواقع والتطلّع. مما لا شك فيه أن خصوصية مكان بيت بيروت كفيلة بتحفيز كل ذلك، فالبيت الذي شيّد في العام ١٩٢٤ تحوّل خلال الحرب الأهلية اللبنانية إلى مركز عسكري، بنيت فيه متاريس نظراً إلى موقعه على خط التماس، وأبقي عليه ليكون اليوم بيتاً ثقافياً جامعاً تنشط فيه الحوارات حول الحرب والسلم والذاكرة. والجدير بالذكر أيضاً أنه لو اعتمدت صور نصر ولوحات زريق نمط كلاسيكي لعرضها جنباً إلى جنب على جدران الصالة، لكانت فقدت قوة كل من الوسطين الكثير. وبذلك تتكامل أعمال الفنانين الثلاثة لتصنع عملاً واحداً يدعو المُشاهد إما إلى الغوص من الداخل، أو النظر إلى المشهد خارج القوقعة، فالخيار يبقى في كلتا الحالتين منوط بتحرك الحاضرين الشخصي والجماعي في مساحة البيت.

 

(*) يستمر المعرض لغاية الثلاثاء ٢  كانون الثاني ٢٠١٨ في "بيت بيروت". يفتح من الاثنين حتى السبت من الساعة 11 صباحاً لغاية الساعة 8 مساءً، والاحد من الساعة 12 ظهراً لغاية الساعة 6 مساءً.