"معزف": موسيقى على هامش الأكاديميا

حسن الساحلي
الجمعة   2017/12/01
لا تبدو أحوال الموسيقى الشرقية في لبنان جيدة، رغم التحسن الطفيف الذي طرأ على المشهد العام مع دخول موسيقيين سوريين وعرب إلى بيروت في السنوات الماضية. السائد في احسن الأحوال هو ما يعرض بشكل محدود في المسارح والأمكنة الثقافية، وهو غالباً إعادة تدوير لما أنتج في العقود الماضية، مع سيطرة نفس الأسماء على المؤسسات الأكاديمية، وعجز متفاقم عن إنتاح موسيقى شرقية مواكبة للأذن العصرية وللتطور التكنولوجي والرقمي. 

المشاكل لا تنتهي، والحديث عنها لا ينتهي أيضاً. بعض الناشطين "أكاديمياً" عوضاً عن مساءلة فشلهم، يظهرون عدم رضا على الجمهور والأجيال الجديدة، غير القادرة على فهم إبداعاتهم المنتمية إلى أزمنة سابقة. أما الأفراد ذوو أنماط التفكير الأكثر معاصرة، فوجودهم خارج البنى المؤسساتية، يبقيهم منعزلين إلى حد ما، وغير قادرين على التأثير.

من وقت لآخر تظهر بعض المبادرات على هامش المؤسسات الأكاديمية المعروفة، تعمل على بناء معرفة موسيقية أو بحثية، بأساليب تعليمية ربما تكون أكثر تحرراً، لكنها وثيقة الإرتباط معرفياً وخطابياً بالسائد أكاديمياً. من تلك المبادرات"معزف" التي أسسها كل من أريج أبوحرب وغسان سحاب في العام 2015، وبدأت تنشط بشكل فعال منذ العام 2016.

تهتم المؤسسة كما ورد في موقعها الخاص، "بالموسيقى الأصيلة في المشرق والعالم، محاولةً خلق مشاريع بحثية وأنشطة موسيقية لإعادة تقديم هذه الموسيقى في الساحة الثقافية، لا كمنتج متحفي، بل كأداة للخلق المعاصر". يدرّس سحاب في قسم الموسيقى في الجامعة الأنطونية، ويشرف في الوقت نفسه على برنامج التدريب الذي تقدمه المؤسسة، والذي استمر العام الماضي أربعة أشهر، وضم 12 تلميذاً (أعمارهم بين 15 و30 عاماً)، وينتهي بمهرجان(**) خاص بعنوان "مهرجان الموسيقى الأصيلة للطلاب".

تتبنى المؤسسة برنامج عمل مركب، يضم ورشتي عمل ذات بعد تخصصي تمتد سنتين. يقدم أحدها، الباحث البريطاني ريتشارد دمبرل، وتتمحور حول مفهوم الآثار الموسيقية، حيث تتطرق إلى المنظومات التي كانت سائده تاريخياً حول العالم، كيفية تطورها، وأوجه الشبه والمقارنة بينها وبين المنظومات الموسيقية الحالية. أما الورشة الأخرى، فيقدمها جون ديورينغ، حول الأصالة Authenticity، وعلاقتها بمفاهيم أخرى كالفولكلور والتقليد.

من الناحية الثانية يقدم "معزف" مؤتمراً موسيقياً سنوياً، من شقين، تخصصي وغير تخصصي. على سبيل المثال، ضم الشق الأخير العام الماضي، لوحة عن أعمال موريس اسكندر وابراهيم كيفو، اللذين عملا على توثيق أعمال موسيقيين أكراد، وسريان وأرمن ناشطين في شمال سوريا، وقد دار نقاش حول التشابه والإختلاف بين تلك الإنماط.



يترافق برنامج التدريب مع ورش عمل حول تاريخ الآلات الشرقية، كيفية صناعتها، ونوع المكونات المستخدمة، بالإضافة إلى ورش حول أنواع الميكروفونات التي يفترض استخدامها في الحفلات، وتتطرق إلى كيفية خروج الصوت من كل آلة وكيفية عمل الميكروفون وتحويله الصوت إلى كهرباء. تستقبل هذه الورش عدداً كبيراً من الأشخاص، بسبب الشراكة التي نستجتها "معزف" مع مؤسستي "الكمنجاتي" و"المنفيين" الناشطتين في مخيم البرج الشمالي للفلسطينيين.

الشق الآخر من عمل المؤسسة، "تشبيكي"، يهدف، وفق ما تقول أريج أبوحرب لـ"المدن"، إلى تطوير مشاريع خارج بيروت. أحد هذه المشاريع الذي ما زال في بداياته، يهتم بتوثيق الموسيقى التقليدية في المناطق اللبنانية، وقد دخلت "معزف" في شراكة مع مؤسسة هنغارية ذات تجربة طويلة في هذا المجال. أما المشروع، الثاني فيهدف إلى مسح ثقافي في لبنان، وما زال في بداياته أيضاً.

لا إحصائيات أو معطيات يمكن الإستناد عليها اليوم حول الوضع الثقافي في المناطق. وما تقوم به "معزف" اليوم، يبقى أقرب إلى العمل العفوي الذي يحاول الإستفادة من شبكة العلاقات الموجودة من أجل رسم خريطة للمؤسسات الثقافية، كالروابط، النوادي، والمسارح، وذلك بهدف تقييم أولي للوضع العام ومعرفة نوعية المشاكل الموجودة.

طبعاً هناك رأس مال ثقافي شبه ضائع في المناطق اللبنانية، بسبب غياب الخبرات والتدريب، وغياب التواصل بين بيروت والمؤسسات المنتشرة في سائر المناطق. لكن الأهم بالنسبة إلى "معزف"، التي ربما تستخدم لغة منتهية الصلاحية، أن ما تحاول العمل عليه يبدو في حال أفضل في المناطق مما هو في بيروت، وهذا تحديداً ما تريد الإستفادة منه من أجل رعاية مشاريع ثقافية مستقبلاً تستثمر في أمكنة لا تزال أكثر تجاوباً مع هذا النوع من الإنتاج الثقافي وأكثر حماساً للعمل لإعادة إحيائه.
(**) قدم "مهرجان الموسيقى الأصيلة للطلاب" أول حفلاته في 25 تشرين الثاني/نوفمبر في سينما ستارز - النبطية، ويقدم الحفلة الثانية في 1 كانون الأول/ديسمبر في كنيسة مار يوسف (مونو) - بيروت.