"ماركس الشاب": رأس المال في المسرح..ولا مانع من السخرية

شادي لويس
الجمعة   2017/12/01
لماذا تأخرت الإنتاجات السينمائية والمسرحية عن حياة ماركس كل هذا الوقت؟
يُرفع الستار عن ماركس واقفاً في محل السيد "فليس"، وهو يحاول أن يرهن لديه إبريقاً فضياً، من ميراث زوجته ذات الأصول الأرستقراطية. يفاوض ماركس البائع على السعر، مستخدماً نظريته عن الفرق بين القيمة الاستعمالية، والقيمة التبادلية للسلعة. وما أن يصل إلى نقطة الطبيعة الاعتباطية لتحديد القيمة، ينتزع البائع الإبريق من يده، "ما دام الأمر عشوائياً، فسآخذه بشلن واحد فقط لا غير". لا يتوقف هنا الأمر، فالسيد فليس يستدعي الشرطة للقبض على المهاجر الألماني، فلا يمكن التصديق بأن هذا الشاب اليهودي المفلس يمتلك مثل تلك القطعة النفيسة.

يفتتح المشهد، المستلهم بالكامل من قصة حقيقية، مسرحية "ماركس الشاب"، التي بدأ عرضها في لندن مطلع الشهر الماضي. وبالحس الساخر نفسه، تتتابع المشاهد التي يتسلق فيها ماركس مداخن المنازل إلى اسطحها للهرب من الشرطة، أو يختبئ داخل خزانة المطبخ تهرباً من محصل الديون، مقدمة عرضاً كوميديا للحياة في لندن خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولمعاناة ماركس الذي وصل إليها لاجئاً في مطلع الثلاثينات من عمره.

لا تتشابه المسرحية الإنكليزية، مع الفيلم الألماني "كارل ماركس الشاب"، لا في العنوان ولا الموضوع، إلا بمحض الصدفة وتزامن عرضهما مع الذكرى المئوية للثورة الروسية. لكن الأمر المثير للانتباه ليس الاهتمام المفاجئ بحياة ماركس، وبالأخص في فترة شبابه، كموضوع للمعالجة الفنية، بل إلى تأخرها كل هذا الوقت. فكيف يكون أول فيلم سينمائي يتناول شخصية ماركس حصراً، من إنتاج العام الحالي فقط؟ لا إجابة مقنعة، سوى أن الحِمل الإيديولوجي الثقيل المرتبط بسيرة الفيلسوف الأكثر تأثيراً على الإطلاق في العصر الحديث، ربما كان، لوقت طويل، سبباً في صد أي رغبة في مقاربة حياته الشخصية فنياً، وإفساد أي محاولة لأنسنته.

 


لم يحقق الفيلم الألماني، المتواضع فنياً، سوى القليل من النجاح في أنسنة ماركس الشاب. فعلى سبيل المثال، يبدو المشهد الذي يمارس فيه الجنس مع زوجته، بلا سياق على الإطلاق، ومقحماً تماماً على سردية الفيلم، لمجرد التأكيد على أن ماركس كان يمارس الجنس مثلنا جميعاً. يقدم الفيلم معالجة بصرية مبالغ في رومانسيتها، ويظهر ابتذالها بشكل أوضح في شخصية ميري بيرنز، حبيبة انغلز الإيرلندية، والتي لا تظهر هيئتها هي ورفاقها، متوافقة مع هيئة الطبقة العمالية البريطانية في القرن التاسع عشر والتي تنتمي إليها، بل تشبه المعالجات السينمائية لروايات جين أوستن، التي تدور أحداثها في أجواء أرستقراطية خالصة، حيث يبدو أن مخرج الفيلم، راؤول بيك، قد خلط بينها وبين ما تصوره الحياة حينها، في الأحياء العمالية في مانشستر.

في المقابل، تقدم المسرحية لجمهورها اللندني، حبكة من الأحداث، تدور بين حي "سوهو" في وسط لندن، وبارات "إيرلز كورت" التي يعرفونها جيداً. لا تكتفى بعرض صورة حميمية لماركس، ككاتب بوهيمي، يجد صعوبة في تدبير ما يكفي من المال لإطعام أطفاله، ويلجأ إلى الشراب للهروب من مشاكله، وللاستدانة من صديقه أنعلز معظم الوقت، فيما يخون زوجته مع المربية التي تحمل منه. بل تذهب، عبر خليط من كوميديا الموقف، واللعب على تنظيرات ماركس عن العمل والقيمة والطبقة، إلى رسم صورة شديدة الذكاء لماركس البرجوازي، وللماركسية نفسها كمنتج برجوازي في الأساس.

في واحد من أكثر مشاهد المسرحية درامية، يقف إنغلز موبخاً ماركس، على شعوره التافه بالشفقة على الذات، ويخبره أنه لا يعرف شيئاً عن المعاناة، ويصف له ما تعنيه تلك الكلمة في أحياء الطبقة العاملة الإنكليزية. لا مكان إذاً للعبقرية الفردية، فماركس يظهر مديناً لإنغلز، ودراسته من قرب للطبقة العاملة في مانشستر، لتطوير نظرياته. في المشهد تلو الآخر، يلتقط من زوجته، والمربية وغيرهما، أفكار نظريته. وفي المشهد الأخير، يجلس مع أسرته، ليقرأ عليهم بعضاً مما كتبه في "رأس المال"، لنُفاجأ بأن كل المصطلحات الماركسية الأشهر، كانت من قريحة زوجته ومربية أطفاله واللتين لم تتوقفاً عن مقاطعته، وتقديم مصطلحات بديلة.

تنجح المسرحية بشكل كبير في أنسنة ماركس، وبرجزته أيضاً، ونزع هالة الفردية عن إنجازه الفكري. وفي الوقت نفسه، تقديم ساعتين من الضحك المتواصل والممتع. لكن المفارقة الأكثر دلالة في كل هذا، أن المسرحية التي حققت مبيعات بأكثر من مليون جنيه إسترليني، حتى قبل بدء عرضها، وهو حدث نادر في المسرح البريطاني، في ما خلا العروض الغنائية. كانت "ماركس الشاب" هي العرض الافتتاحي لمسرح "الجسر"، وهو أول مسرح بهذا الحجم يُفتتح في لندن منذ عقود ثمانية، بتمويل من القطاع الخاص. فبالطبع، ليس هناك ما هو أكثر ملاءمة من مسرحية عن ماركس، ونقده لرأس المال، لافتتاح المسرح الأول الممول برأسمال خاص، على الضفة الجنوبية للتايمز.